ولد أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني في خوارزم، وتلقى علومه على يد ابن عراق، كماله اتصالات مع الشيخ الرئيس ابن سينا، رافق السلطان محمود الغزنوي في أكثر غزواته لشمال غرب الهند ومع ابنه السلطان مسعود من بعده، حيث تعلم اللغة السنسكريتية إلى جانب إتقانه الفارسية والعبرية والسريانية إضافة للعربية.
مؤلفاته: يقول المستشرق ساخو بأن البيروني امتلك أعظم عقلية عرفها التاريخ، وهذا العبقري الفذ من ألمع وأبرز مفكري الحضارة العربية الإسلامية، كتب في الرياضيات والفلك والجغرافيا والفيزياء والفلسفة والطب والشريعة والأدب واللغة، فترك ما يقارب مائة مؤلف نذكر منها "مقاليد علم الهيئة، تحقيق منازل القمر، تقسيم الأقاليم، العمل بالإسطرلاب، المسائل الهندسية، النسب بين الفلزات والجواهر في الحجم، الجماهر في الجواهر، التطبيق إلى حركة الشمس، الصيدلة في الطب، جدول التقويم، تصور أمر الفجر والشفق في جهة الشرق والغرب من الأفق، رؤية الأهلة، وأشهر الكتب التي ترجمت إلى لغات عديدة: كتاب تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، وكتاب القانون المسعودي في الهيئة والتنجيم، والأكثر شهرة على الإطلاق "كتاب الآثار الباقية في القرون الخالية."
أهم منجزات البيروني في الرياضيات والفيزياء:
. ساهم في تقسيم الزاوية ثلاثة أقسام متساوية وعمل في الجداول الرياضية للجيب
table des sinus والظل table des tangentes.
. ضلوعه بعلم المثلثات بشكل عام وبقانون تناسب الجيوبsinus بشكل خاص.
. وضع معادلة رياضية لاستخراج مقدار محيط الأرض وعُرفت بقاعدة البيروني.
. أكّد البيروني قبل كوبرنيكوس (الذي ينسب إليه بأنه أول من قال عن حركة الأرض حول نفسها وحول الشمس ) بخمسمائة عام، ويقول بشكل واضح وصريح: ليست الشمس هي سبب تفاوت الليل والنهار بل إنّ الأرض ذاتها هي التي تدور حول نفسها وتدور مع الكواكب والنجوم حول الشمس.
. توصل البيروني إلى استخراج الثقل النوعيpoids specifique لكثير من الأجسام الصلبة والسائلة مستعيناً بمبدأ أرخميدس، حيث ابتكر آلة سماها "الآلة المخروطية" أو "الميزان الطبيعي" وهي أقدم آلة استعملت لقياس الثقل النوعي وأعطت نتائج مذهلة تتناسب تقريباً مع الأرقام الحديثة، وتتلخص طريقته بوزن جسم المادة المراد تعيين ثقلها النوعي في الهواء أولاً ثمَّ وزنه ثانية في الماء داخل الآلة المخروطية، وبعد ذلك يزن الماء الذي أزاحه ذلك الجسم، فيصل إلى معرفة حجم الجسم الموزون، ومن قسمة وزن الجسم في الهواء على وزن الماء المزاح حصل البيروني على الثقل النوعي للجسم الموزون أي أنَّ:
الثقل النوعي =
أي أنَّ :
D =
وقد توصل إلى نتائج قريبة جداً من العلم الحديث، مثلاً:
المادة نتائج البيروني العلم الحديث
الذهب 19.05 - 19.26 19.26
الزئبق 13.59 - 13.74 13.59
النحاس 8.83 - 8.92 8.85
الرصاص 11.437 11.445
الاختلاف البسيط الذي نراه في النتائج يعود إلى عاملين:
1. تطور التقنيات الحديثة.
2. استخدم البروني في أبحاثه الماء العادي بينما العلم الحديث يستخدم الماء المقطر.
. عيّن البيروني الثقل النوعي لثمانية عشر نوعاً من الأحجار الكريمة ومثالاً على نتائجه:
الحجر الكريم نتائج البيروني العصر الحديث
الياقوت الأحمر 4.01 4.4
الزمرد 2.86 2.775
العقيق 2.67 2.7
اللؤلؤ 2.7 2.684
. في كتابه المسعودي يتحدث البيروني عن نوعين من الجاذبية هما: جاذبية الأرض لما عليها وحولها، وجاذبية السماء للأرض، وقال بأن الجاذبية القصوى تقع في باطن الأرض، لكنه لم يستطع التوصل إلى قانون يحدد قوة الجاذبية، لكن لا يخفى على أحد بأن اكتشافاته مع ثابت بن قرة والخازني في هذا المجال قد مهَّدت الطريق أمام نيوتن لأن يحدِّد قانون قوة الجاذبية.
. أثبت البيروني بأن الضوء أسرع من الصوت.
. تحدث عن ضغط السوائل وتوازنها، ووضع أسس ما يسمى بعلم الهيدروستاتيك، وشرح كيفية صعود مياه الفوّارات والينابيع من أسفل إلى أعلى، وكيفية ارتفاع السوائل في الأوعية المتصلة إلى مستوى واحد بالرغم من اختلاف أشكال هذه الأوعية وأحجامها.
منهجه العلمي: في مقدمة كتابه "الآثار الباقية من القرون الخالية" يحدد البيروني المنهج الذي اعتمده، فنجده بلغ بهذا المجال مستوى متطور جداً قياساً إلى عصره وإمكانياته، فيشير بوضوح بأن طبيعة الموضوع المعالج هي التي تحدِّد المنهج الملائم وليس العكس، ويقول:
. إن العالِم لا يستطيع أن يبدع بالعلم فجأة وبدفعة واحدة بل عليه أن يعود إلى مناهل العلم في الآثار التي تركها السلف.
. ينبغي أن ندرس ما وصل من السلف ونخضعه للنقد وللمقاييس العقلية وللمراقبة والاختبار لتمييز الخطأ عن الصواب وأن نحذر الثقة العمياء بالآراء ومصادرها.
. للتأكد من صحة الأدلة العقلية لا بد من تطبيقها على المحسوسات تطبيقاً مادياً وذلك في كافة حقول العلم المتنوعة.
. العالِم الحقيقي هو الذي يبتعد عن التعصب لرأي ويبتغي الحقيقة المطلقة بمعزل عن الأهواء والرغبات، وهو الذي يسعى وراء الحقيقة لأنها حقيقة، لا للتظاهر والمفاخرة بالمعرفة، فالتواضع من أهم صفات العالم.
ولأهمية وشهرة كتاب "الآثار الباقية في القرون الخالية" سنقدم في هذه العجالة إطلالة على هذا الكتاب القيِّم للبيروني.
كتاب الآثار الباقية في القرون الخالية
احتوى كتاب البيروني معارف شتى ومتنوعة عن الأمم السالفة، ويشير في مقدمته بأنه سُئل من قبل أحد الأدباء عن التواريخ التي تستخدمها الأمم والاختلاف الواقع في الأصول التي هي مبادئها والفروع التي هي شهورها وسنيها والأسباب الداعية لأهلها إلى ذلك وعن الأعياد المشهورة والأيام المذكورة للأوقات والأعمال وغيرها، ومن فحوى هذه الأسئلة التي كانت سبباً لتأليف الكتاب نتعرف على مضمون أبحاثه.
أهم محتويات الكتاب:
أ. كما ذكرنا سابقاً فقد أوضح في المقدمة المنهج العلمي الذي اتبعه أثناء تأليفه للكتاب.
ب. بحث في اليوم والشهر والسنة عند مختلف الأمم، وخلص إلى وجوب اعتماد اليوم أساساً للبحث، لأن اليوم وحدة زمنية ثابتة بينما الأشهر والسنون يختلف مقدارها باختلاف الأمم، واليوم هو عودة الشمس بدوران الفلك إلى دائرة فرضت ابتداءً لذلك، والعرب تبدأ حساب اليوم الكامل منذ الغروب لأن أشهرهم تبدأ بظهور الأهلة ولا تبنى على الحساب، أما الروم والفرس قالوا بأن النهار سابق الليل وأن كامل اليوم هو من أول طلوع الشمس من المشرق إلى طلوعها منه في الغد، ومعظم علماء الفلك فرضوا أن اليوم يبدأ من موافاة الشمس فلك نصف النهار إلى موافاتها إياه في نهار الغد.
ج. ينتقل بعد ذلك إلى ما يركّب من الشهور والأعوام ويقول بأن السنة هي عودة الشمس في فلك البروج إلى أي نقطة فرضت ابتداء حركتها وذلك بعد أن تستوفي الفصول الأربعة وتنتهي إلى حيث ابتدأت، وتتفاوت نتائج الأرصاد في كمية السنة من الأيام وكسورها تفاوتاً غير محسوس، لكنه عند امتداد المدة يصبح خطاً كبيراً تنبه إليه العلماء، حيث أنه من خلال عودة الشمس من فلك البروج يكون القمر قد استوفى 12 عودة وأقل من نصف العودة وبعد إسقاط الكسر الذي يساوي 11 يوماً على التقريب، أخذت عوداته 12 أساساً للسنة القمرية وصار للناس سنتان قمرية وشمسية وعليهما بنوا سائر سنيهم.
. فالروم والسريان والكلدان والفاطميون أخذوا بالسنة الشمسية التي هي 365 يوماً وربع اليوم، وجعل الروم شهورهم 12 شهراً وكبسوا ربع اليوم كل أربع سنوات على شهر فبرايوس ليصبح 29 يوماً وسموا السنة سنة كبيسة.
. أما الأقباط قد اعتمدوا السنة الشمسية لكنهم فصلوا الأرباع وكبسوها سنة كاملة كل 1460 سنة، والفرس اعتمدوا السنة الشمسية غير أنهم جعلوا الشهر 30 يوماً والسنة 360 يوماً وألحقوا الكسور بها وكبسوها كل 6 سنوات بشهر وكل 120 سنة بشهرين، أحدهما بسبب الخمسة أيام والثاني بسبب ربع اليوم.
. وأخذ اليهود والصابئة سنتهم من مسير الشمس وشهورهم من مسير القمر، فجعلوا سنتهم 12شهراً وعدد أيامها 354 يوماً وهي أيام السنة القمرية، وألحقوا الأيام الباقية بالشهور إذا استوفت أيام شهر واحد وسموه آذاراً الأول وسموا آذاراً الأصلي بالثاني والسنة الكبيسة سموها عبوراً، فكبسوا كل 19 سنة قمرية بسبعة أشهر.
. وكان العرب في الجاهلية يحسبون فرق السنة الشمسية والقمرية البالغ 10 أيام و20 ساعة و12 دقيقة ويكبسون سنتهم بشهر كامل كلما تم منها ما يستوفي أيام الشهر، وكانوا يلجأون إليه كل سنتين أو ثلاث ليثبِّتوا حجَّهم على حالة واحدة وقت أفضل الأزمنة وأخصبها، ومنهم من كان يكبس كل 24 سنة قمرية بتسعة أشهر، وبقيت شهور العرب ثابتة مع الأزمنة لا تتأخر عن أوقاتها ولا تتقدم حتى حجَّ النبي محمد "ص" حجَّة الوداع ونزلت الآية الكريمة " إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين، فأهملوا النَّسْءَ، أي: الكبس، وزالت شهورهم عمَّا كانت عليه وأصبحت غير مؤدية لمعانيها، ومنذ السنة السابعة للهجرة النبوية من مكة المكرَّمة إلى المدينة المنورة (23/ 9 / 622م) بُدئ التأريخ بالسنة الهجرية وتقوم على رؤية الأهلَّة، وشهور العرب اثنا عشر شهراً، وهي: محرّم، صفر، ربيع الأول، ربيع الآخر، جمادى الأول، جمادى الآخر، رجب، شعبان، رمضان، شوال، ذو القعدة، ذو الحجّة، وكانت سنتهم تبدأ في الخريف ويسمونه الربيع، ثم الشتاء، ثم الصيف أو الربيع الثاني، ثم القيظ، والأشهر (محرم، رجب، ذو القعدة، ذو الحجة) سمَّوها الأشهر الحرم لأنهم حرموا القتال فيها، وسمي صفر لوباء كان يصيبهم فتصفرّ وجوههم، وقيل لاصفرار الأرض، أما جمادى الأول والآخر فيتناسبان مع البرد والشتاء والتجمّد، ورجب لأنهم أرجبوا أي كفُّوا عن القتال، وشعبان لانشعاب القبائل فيه إلى المناهل وطلب الغارات، ورمضان حينما يبدأ الحسر وترمض الأرض، وشوال لأنهم شوَّلوا أي ارتحلوا وقيل لأن الإبل تشول فيه أذنابها من شهوة الضراب لذلك كرهت العرب التزويج فيه، ذو القعدة لما قيل فيه: اقعدوا وكفوا عن القتال، ذو الحجَّة لأنه الشهر الذي يحجُّون فيه.
. وأطلق الروم أسماءً لأشهرهم منها: يوريوس، فبرايوس، أغسطس، مرطيبوس، … .
. ونصارى بلاد الشام والعراق وخراسان مزجوا شهور اليهود والروم، وأول سنتهم شهر طمبريوس وهو تشرين الأول ليكون أقرب إلى سنة اليهود، ثم سموها بأسماء يونانية وهي: تشرين قديم، تشرين حراي، كانون قديم، كانون حراي، شباط، آذار، نيسان، آير، حزيران، تموز، أيلول، وأخذ المسلمون هذه التسميات بعد أن عدلوا بها "قديم إلى أول"، حراي إلى آخر ثم إلى ثان، وزادوا ألف على آير لتصبح أيار.
. أما أيام الأسبوع فكانت عند العرب على الشكل التالي: أوَّل (الأحد)، أهْوَن، جُبَّار، دبَّار، مؤنس، عَرُوبة، سيَّار، ثم استحدثوا أيام الأسبوع المعروفة حالياً.
. كذلك يذكر البيروني في كتابه أعياد العرب وأسواقهم ومواقيتها ومددها وأعياد المجوس والصابئة، كذلك أورد مختلف التقاويم التي تعتمدها مختلف الأمم وما طرأ عليها من تعديل، وأورد جداول تاريخية لملوك أشور وبابل والكلدان والقبط واليونان وفارس وفترات حكمهم وبيّن اختلاف أقوال الناس فيهم، وتكلم عن أعياد الطوائف المختلفة وأسمائها وتواريخها وعن الوثنيين وأصحاب البدع في سائر الأمم، كذلك تحدث عن منازل القمر، طلوعها وسقوطها، وعن العناصر والأزمنة والنجوم وحركاتها وعن الفلك وحركته، وأفرد فصلاً للحديث عن قاعدة أوجدها لتسطيح الكرة وأدى اكتشافه هذا إلى تقديم خدمة كبيرة لمصممي الخرائط الفلكية ومكّنتهم من الرسم على جسم كروي.
. تعرّض البيروني لأمور كثيرة وهامة في كتابه، كمسألة حقيقة لقب الإسكندر بذي القرنين فيذكر الروايات المختلفة بهذا الشأن، وينتقل في فصل آخر إلى كيفية تحريف الأنساب ثم يحدد نسب النبي محمد"ص" ونسب شمس المعالي ثم يتوسع في مسألة الألقاب لدى الخلفاء وحدد بعضها "ولي الدولة، عميد الدولة، عضد الدولة...."
. كما يورد البيروني في كتابه مجموعة كبيرة من الجداول الهامة جداً منها:
جداول أوائل الشهور وأيامها عند مختلف الأمم مع إشارات على السنين الكبيسة وجداول استخراج ومعرفة التواريخ وحسابها عند جميع الأمم كما يحتوي على جداول يعيّن رأس السنة عند مختلف الشعوب وفطر صومهم الكبير والفصح المصحح وشهر الفصح والصوم الأوسط وأيام الأعياد والمناسبات الخاصة بكل شعب وعاداتهم الخاصة.
. وبجداول أخرى يوضح الفصول ويعيّن بدء كل فصل من الفصول عند الروم والسريان والفلكيين واليونان والكلدان والعرب والقبط والطبيعيين.
. وأخيراً أنهى البيروني كتابه قائلاً: "قد آن أن نختم القول، فقد أنجزنا الوعد من علم ما سُئلنا عنه على قدر الوسع وما أوتينا من العلم بذلك …".
قيمة الكتاب: تأتي أهمية "كتاب الآثار الباقية في القرون الخالية" للبيروني في إطار أهمية التراث، ومسألة التراث تحتل اليوم مركز الصدارة وبخاصة عند الشعوب التي لا تزال في بداية نهضتها، فهي ملزمة شاءت أم أبت بأن تعود إلى تراثها لتتعرف على أصالتها وهويتها، وتحت هذا العنوان تصبح أهمية الكتاب عظيمة جداً وبالأخص إذا عدنا إلى مضمونه الذي يعتبر ذو قيمة تاريخية وعلمية وثقافية كبيرة، حيث نجد أن البيروني قد ضمّن كتابه معلومات ضخمة ومن مصادر مختلفة لأمم متعددة، ليصبح كتابه عبارة عن موسوعة تاريخية هامة لكثير من الشعوب، ونراه لم يكتفِ بجمعها، بل فحصها ونقدها وأقام الموازنات بينها وخرج باستنتاجات منها، ثم عرضها مبسطة ومرتبة قريبة من أذهان الناس، وكفى الباحثين مؤونة مطالعة المصادر الأصلية التي فقد معظمها، وبذلك يكون البيروني قد حفظ تراث الأمم السابقة من الضياعن وقدم خدمة كبيرة للحضارة الإنسانية، وهذا ما دفع العالم ساخو إلى ترجمة كتاب البيروني إلى الإنكليزية في أواخر القرن التاسع عشر