(¯`·._.·نسيبة القرن العشرين·._.·´¯)
شامخة كالطود ... تزيدها الرياح كبرياء .. والعواصف جرأة .. وهجمات الباطل ثباتاً على مبدأ الحق .. نبتت كبرعم أخضر سقتها العناية الإلهية من ينابيع الإسلام فكبرت واشتد عودها صلابة.. تقاوم به السياط بصدق من اشترى الآخرة بآلام الدنيا..
إنها زينب الغزالي الجبيلي.. العربية الأصل.. وصاحبة النسب القرشي إذ يتصل نسبها من جهة أبيها بالفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. صاحبة اللسان الفصيح والحجة القوية حتى في أحلك الظروف وأكثرها إيلاماً.. سارت في رحلة الحياة موقنة أن ما أصابها لم يكن ليخطئها وما أخطأها لم يكن ليصيبها.
ولدت زينت الغزالي في 2 يناير عام 1917م بإحدى قرى محافظة الدقهلية في مصر.. كان والدها من علماء الأزهر الشريف فرباها على حب الخير والفضيلة.. نمى لديها استعداداً فطرياً لقول الحق وصدق الحديث ورفض الظلم والتصدي له بسلاح الإيمان بالله.. أرادها والدها أن تكون مثل الصحابية الجليلة نسيبة بنت كعب المازنية الأنصارية.. وكان دؤوباً على تسميتها بهذا الاسم.. راغباً في تعويد ابنته الصغيرة على حب الجهاد والذود عن الإسلام.. فصنع لها سيفاً من خشب.. وكان يخط لها دائرة على الأرض لتقف في وسطها ثم يقول لها : اضربي أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فكانت تضرب في حركات وهمية يميناً وشمالاً أماماً وخلفاً لتتربى زينب على ذكرى أناس تطهرت قلوبهم فقويت أجسادهم بنور الإسلام.. وتصاغرت أمامهم مفاتن الدنيا حين عاشت الجنة في قلوبهم فهانت أجسادهم في سبيل الله.. وتاقت أرواحهم لنصرة دينه.. غير أن فرحة زينب الغزالي لم تكتمل إذ مات والدها وهي في سن العاشرة فأحست بضياع أحلامها أمام وفاة من رسم لها طريق الله لتنتقل زينب مع أمها إلى القاهرة حيث يقيم إخوتها فيرى أخوها الأكبر في شخصها الصغير جرأة وقوة يقرر معها أنها لن تكمل تعليمها !!!
لم تجد زينب بداً من طاعة أوامر أخيها الأكبر رغم عدم رضاها بهذا الموقف الذي تتداخل فيه التقاليد مقحمة نفسها فتغلق على فتياتنا أبواب العلم بمنظور خاطئ يراد به المحافظة على عفة الفتاة .. فصبرت على هذا القرار منتظرة الفرج من أقدار السماء .. وفي ظل أيام الانتظار اقتنت زينب العديد من الكتب التي ملأت حياتها وآنست وحدتها .. فحفظت العديد من مقاطع كتب عائشة التيمورية عن المرأة.. وكان هذا بمساعدة شقيقها الأصغر علي الغزالي الذي كان يرى ضرورة تعليمها.. حتى جاء اليوم الذي قررت فيه أقدار السماء أن تعيد زينب إلى خطوات التعليم حين خرجت من منزلها في حي شبرا وكان عمرها اثنتي عشرة سنة.. فرأت مدرسة خاصة للبنات فما كان منها إلا أن طرقت بابها قائلة لبواب المدرسة : جئت لمقابلة مدير المدرسة، فسألها وقد بدت له طفلة صغيرة عن سبب المقابلة، فأردفت له قائلة بكل فخر واعتزاز: أنا السيدة زينب الغزالي الشهيرة بنسيبة بنت كعب المازنية ولدي موعد معه.. فأدخلها البواب وقد ازداد دهشة من فصاحة هذه السيدة اليانعة.. ولما وصلت إلى مدير المدرسة بادرته قائلة : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أنا السيدة زينب الغزالي الشهيرة بنسيبة بنت كعب المازنية ، فدهش المدير ولكنه أصغى إليها بقلب المعلم الذي يتنبه لطلاقة تلميذة وحسن مدخلها ، فقال لها : وماذا تريدين يا سيدة زينب أو يا سيدة نسيبة ؟.. فروت له قصتها مع شقيقها الأكبر وطلبت منه أن يقبلها تلميذة في مدرسته ، فأعجب المدير بفصاحتها وذكائها وحسن حوارها ، ثم أجرى لها اختباراً في بعض الأسئلة فأجابته بثقة عندها طلب منها أن يأتي شقيقها الأصغر ليعتمد انتظامها في المدرسة ..
وهكذا عادت زينب إلى معين العلم تنهل منه بفصاحة وبلاغة تجتاز سنوات التعليم لتثبت للجميع أن الله وهبها إبداعاً يستحق أن يجد ماءً عذباً يغذيه .. فقد ملكت منطق العقل والحجة في قبول البراهين.. ترفض أمامه كل ما يرفضه العقل من نظريات قد تسكن عقول الناس فتحرك بصماتهم دون أن يدركوا صحتها من خطئها .. وبعد حصولها على الثانوية العامة انضمت للاتحاد النسائي الذي تزعمته في تلك الآونة هدى شعراوي والذي كان وقتها صوتاً عالياً يطالب المجتمع بحقوق المرأة لكنه أرادها ضمن شعارات رنانة جوفاء سعت للمساواة مع الرجل ضمن معايير وطرائق وصلت إلى عالمنا العربي مستوردة من أراضي الغرب الذي بات يورد لنا غثه وسمينه لنبتلعه بأفواهنا وعقولنا دون أن نكلف أنفسنا عناء التمحيص في خيره وشره.. فخرجت بذلك المرأة من مطالبها بحقوقها الضائعة والتي غيبتها جهالة المجتمعات العربية حين تناست أن الإسلام منح المرأة تلك الحقوق عبر كتاب الله وسنة رسوله الكريم لتطالب بها عبر منابر أوروبية سعت لتقييد المرأة لا لتحريرها بسلاسل المساواة مع الرجل .. تسرق منها حقوقها لتهبها عبودية وخضوعاً في عالم الإباحية ومستنقع الانحلال .. فشاءت أقدار السماء لزينب الغزالي أن تكون لساناً فصيحاً يخطب لأجل حقوق المرأة في منابر تغطي نواياها السيئة بأقنعة الحقوق !!!
فقد خاضت في سنوات حياتها الأولى نقاشات كثيرة ضد الأزهر من أجل الاتحاد النسائي تكافح ببسالة لنيل حقوق المرأة مؤمنة بكل الشعارات التي نادى بها الاتحاد النسائي.. إلا أنها لم تخرج عن قناعاتها الإسلامية بأن يكون هذا التحرر ضمن الإطار الإسلامي.. وقد لفت هذا الأمر نظر علماء الأزهر وشعروا أن هذه الخطيبة المفوهة مبهورة بشعارات حقوق المرأة ضمن الاتحاد النسائي بما لديها من مقدرة على إقناع الطرف الآخر بوجهة نظرها.. حينها أراد أحد علماء الأزهر وهو الشيخ محمد النجار مناقشتها ليوضح لها بعض الأمور الدينية التي كانت تجهلها .. فتفتحت عيناها على الكثير من القضايا التي رأتها صواباً ضمن الاتحاد النسائي .. وباتت تعرف موقف الإسلام منها حين حرر الإسلام كرامة المرأة قبل أن يحرر حقوقها المادية .. وصان عفتها في عالمه المشرق وقت كان الغرب لا يعرف للمرأة قدراً ولا قيمة .. فعرفت زينب أن الإسلام هو طريق الخلاص بالمرأة لنيل حقوقها .. ولكن كيف لها أن تخرج من الاتحاد النسائي وهي صاحبة الامتياز والحظوة لدى زعيمته هدى شعرواي .. التي رأت فيها أملاً وحجة قوية لانضمام الكثيرات إلى الاتحاد.. حتى جاء ذلك اليوم الذي اختاره الله ليفرق بين الحق والباطل في حياة نسيبة القرن العشرين فتمحي الرمادية في رؤية الأمور ليحل محلها إشراقة الإسلام في حل قضايا الأمة والمرأة.. إذ لا مجال لنيل حقوق المرأة والأمة بأسرها تائهة لا تدري أين تكمن حقوقها !!!
ففي أحد الأيام دخلت زينب مطبخ أسرتها فانفجر بها موقد الغاز.. وطالت النيران وجهها وسائر جسدها.. فكان الطبيب يأتي كل يوم لمعالجة قروحها وحروقها يائساً من شفائها.. ليخبر أهلها بعد أيام أن حالتها في رحمة الله وأن شفاءها ضرب من ضروب المحال طالباً منهم الدعاء لها بالرحمة.. فسمعت بهذا النبأ دون أن يخبرها أحد فما كان منها إلا أن تيممت واجتهدت في العبادة والصلاة استعداداً للموت .. مبتهلة إلى الله بالرجاء والتضرع أن يغفر لها انضمامها إلى جماعة هدى شعرواي.. تتوسل له أن يعيد إليها جسدها كما كان فهو القادر على كل شيء وتعاهده أن تكون بكل كيانها لله ومع الله .. مجاهدة بكل طاقاتها لأجل الدعوة الإسلامية والعودة بالمرأة المسلمة إلى عصر الصحابيات...
ما أروع الإخلاص في الدعاء وما أحلى التوبة الصادقة حين تخرج من قلب أخلص الولاء لله .. فإذا بالجسد الذي قرر الأطباء موته يتماثل للشفاء وإذا بالحروق تبرأ مما بها.. لتعاودها الصحة في معجزة أرادها المولى أن تظل ماثلة أمام قلبها حين تنهال عليها المحن.. فيكون أول عمل تقوم به بعد شفائها هو الاستقالة من جماعة هدى شعراوي وتأسيس جمعية السيدات المسلمات.. لتخرج زينب الغزالي كما يقولون عنها من عالم القبعة إلى عالم الحجاب.. تعود إلى الحق بروح صافية تحمل في جسدها معجزة الشفاء لتبدأ رحلة الإيمان والعهد الذي عاهدت به الشافي.. تنشر الإسلام برؤيا القرن العشرين .. تواجه الصعاب بخطوات واثقة تستمدها من نبع صحابيات عاصرن رسول الله صلى الله عليه وسلم لتثبت للجميع أن المرأة المسلمة هي ذاتها مهما تغيرت العصور وتقلبت الدهور.. ويصبح خطابها المفوه حجة مع الإسلام تطالب بعودة الأمة للدين الصحيح كي تنال المرأة حقوقها ويأخذ الرجل حقوقه ويعود للأمة مجدها وسؤددها الذي فقدته حين استبدلت مشاعل الإسلام بشموع الغرب اللعين .. فسعت لتحرير المرأة ممن يدعون تحريرها بأفواههم ثم يقيدونها بأفعالهم .. ودأبت على الخروج بالمرأة من مستنقعات الرذيلة المقننة بقوانين تحرير المرأة إلى عالم يحفظ للمرأة حقوقها.. فاجتازت زينب بهذا العمل الجليل كل قيود الاستعمار الفكري وخبيث فخاخه.. لتنتشر جمعيتها التي أسستها في أنحاء مصر وتصبح مجلتها السيدات المسلمات معول حق يهدم أفكار التحرر.. وصوتاً يقنع الأمة بالعودة إلى دين الله.. ليلتقي الفكر النير مع الفكر النير في لقاء رباني يحمل راية الدفاع عن الإسلام رغبة في العودة بالمجتمع إلى عصر النبوة وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..حين انضمت زينب الغزالي لجماعة الإخوان المسلمين التي رأت أن العودة إلى دين الله لن تكون بالشعارات الجوفاء إنما بتنشئة رجال الأمة ونسائها وشيوخها وأطفالها على تطبيق حدود الله مع أنفسهم أولاً ثم مع المحيطين بهم فيكون ذلك نواة لنشأة المجتمع المسلم..
ولتحقيق هذا الهدف النبيل تقرر إقامة برنامج شامل يحمل دعاته لواء إعادة المجتمع إلى دين الله ومن ثم مطالبة الدولة بتحكيم شرع الله بدلاً من القوانين الوضعية المطبقة في مصر وفي الكثير من البلدان العربية ..خاصة وأن تلك الفترة ماجت فيها تيارات ومذاهب هدامة باتت تسري في دماء المجتمع المسلم مجرى الدم في العروق .. تطرد في طريقها تعاليم الإسلام بحجة الرجعية وعدم مواكبة العصر .. فحولت الكثير من أبنائه إلى الشيوعية والاشتراكية بدعوى تحرير المجتمع من ظلماء الجهل تحت أقنعة هدفت في أساسها إلى قتل الإسلام.
لكن الله عز وجل تكفل هذا الدين عبر عصوره بعلماء ومصلحين يوقظون في الأمة صحوة تخرجها من مهاوي الذل .. فكانت للأمة يقظة تقف في وجه الفكر الاشتراكي وأنظمه الشيوعية تنفض عن كاهل الدين غبار النسيان عبر سنوات جهل وفتور صنعت في أهله تخلفاً ألصقوه بالإسلام وهو بريء منه .. فكان كتاب في ظلال القرآن يرفرف على دوحة الإسلام مجدداً لفهم القرآن برؤيا القرن العشرين.. يدحض ما يفتريه دعاة الرأسمالية والاشتراكية من دعاوى جمود الإسلام .. وكان رائد هذا الكتاب الغني عن التعريف الشهيد سيد قطب أحد رموز جماعة الإخوان المسلمين التي انضمت إليها زينب الغزالي.. فبدأ نبع الإسلام يعود إلى صفائه بقوة أهله وغدت أنهار الدين القويم تجرف في طريقها كل ما يلقيه الأعداء من صخور صماء يراد بها القضاء على الدين الحنيف.. فغدت مياه التجديد تغذي العائدين إلى الله وكل المتعطشين للنهوض بالأمة الراكدة .. عندها رأت أعين المخابرات الأمريكية والروسية في جماعة الإخوان خطراً مقبلاً وشمساً ستطفئ شموعهم السوداء وسيفاً ذا نصل حاد يقطع الطريق على كل المشككين بالإسلام.. فخافت من هذا الخطر القادم وبدأت تضع المخططات لاغتيال رواد الدعوة رغبة في وأد الحق الوليد. فأشاعت عبر ذيولها أن الإخوان يخططون لقتل جمال عبد الناصر وعدد من شخصيات حكمه البارزة لتوغل في قلب السلطات الحاكمة نيران الحقد على جماعة الإخوان المسلمين .. موهمة أصحاب العقول المتدثرة تحت لواء الاشتراكية أن الإسلام الحق يبني ذاته بطرق الاغتيال.
وقد عبرت زينب الغزالي في كتابها (أيام من حياتي) عن ذلك في قولها : (ليس من أهداف الإخوان المسلمين قتل عبد الناصر.. إن غايتنا أكبر من ذلك بكثير.. إنها الحقيقة الكبرى قضية التوحيد وعبادة الله وإقامة القرآن والسنة) فكان الاعتقال نصيب جماعة الإخوان المسلمين بدءاً من سيد قطب إلى الإمام حسن الهضيبي وصولاً إلى زينب الغزالي والآلاف المؤلفة من دعاة الحق.. الذي ساقتهم أيدي الضلال إلى سجون الظلم افتراء وبهتاناً بدعايات مضللة تؤلب قلوب الجماهير على جماعة الإخوان .. حجتهم في ذلك التخطيط لقتل جمال عبد الناصر !!!
ففي يوم 20 أغسطس لعام 1964م اقتحمت المخابرات المصرية منزل زينب الغزالي وعاثت به فساداً ما بين إتلاف وتكسير وتمزيق .. حتى لم يسلم من أيديهم شيء !!! وحين حاولت أن تخاطبهم بلغة القانون الذي يحتكمون إليه فسألتهم عن إذن التفتيش صرخوا في وجهها يتقهقهون إذن تفتيش في حكم عبد الناصر !! ثم ألقي القبض عليها وسيقت إلى السجن الحربي.. لتبدأ رحلة التعذيب من قبل طغاة أخذتهم العزة بالإثم .. لا يتورعون عن فعل أي شيء يندى له جبين الإنسانية.. بدءاً من التجريح بأقذع الألفاظ التي ترفضها كل الأعراف الدولية انتقالاً إلى الجلد بالسياط ونهش الكلاب المسعورة.. أملاً منهم في إجبارها على الإقرار بأن هناك خطة تهدف لقتل جمال عبد الناصر وضعها جماعة الإخوان المسلمون .. ولما فشلت قوى البغي والضلال في إجبار زينب الغزالي على قول الباطل لخدمة مآربهم أمعنت في تعذيبها ظناً منهم أن النيل من الأبدان يزهق الأرواح .. فصمدت زينب أيما صمود.. وتحملت مالا يحتمله عتاة الرجال..
لندع زينب الغزالي تروي لنا عن أحد هذه المواقف العصيبة ( فتح باب لحجرة مظلمة فدخلت وقلت : باسم الله السلام عليكم.. وأغلق الباب وأضيئت الكهرباء قوية !! إنها للتعذيب ! الحجرة مليئة بالكلاب ! لا أدري كم !! أغمضت عيني ووضعت يدي على صدري من شدة الفزع .. وسمعت باب الحجرة يغلق بالسلاسل والأقفال .. وتعلقت الكلاب بكل جسمي.. رأسي ويدي وصدري وظهري.. كل موضع في جسمي.. أحسست أن أنياب الكلاب تغوص فيه .. فتحت عيني من شدة الفزع وبسرعة أغمضتهما لهول ما أرى .. وضعت يدي تحت إبطي وأخذت أتلو أسماء الله الحسنى مبتدئة بـ "يا الله يا الله".. وأخذت أنتقل من اسم إلى اسم.. والكلاب تتسلق جسدي كله ... أحس بأنيابها في فروة رأسي .. في كتفي.. في ظهري.. أحسها في صدري في كل جسدي .. أخذت أنادي ربي هاتفة: "اللهم اشغلني بك عمن سواك.. اشغلني بك أنت يا إلهي يا واحد يا أحد يا فرد يا صمد.. خذني من عالم الصورة.. اشغلني عن هذه الأغيار كلها.. اشغلني بك.. أوقفني في حضرتك.. اصبغني بسكنتك.. ألبسني أردية محبتك.. ارزقني الشهادة فيك .. والحب فيك والرضا بك والمودة لك وثبت الأقدام يا الله .. أقدام الموحدين " كل هذا كنت أقوله في سري .. والكلاب نابشة أنيابها في جسدي.. مرت ساعات ثم فتح الباب وأخرجت من الحجرة.. كنت أتصور أن ثيابي البيضاء مغموسة بالدماء.. ولكن ويا لدهشتي الثياب.. كأن لم يكن بها شيء .. كأن ناب واحد لم ينشب في جسدي.. سبحانك يا الله أنت معي.. يا الله هل أستحق فضلك وكرمك ؟.. كل هذا كنت أقوله في سري فالشيطان ممسك بذراعي يسألني : كيف لم تمزقك الكلاب ؟).
كان هذا هو بداية العذاب في رحلة السجن التي عاشتها زينب الغزالي.. فقد انهالت عليها سياط الشر اللعين بدءاً من خمسين جلدة وصولا إلى خمسمائة جلدة .. تنصب على جسد امرأة قالت : ربي الله .. هؤلاء هم فرسان دعاة التحرر والأفواه المعطرة بكلمات الاشتراكية.. لكن زينب ازدادت مع العذاب تصميماً ومع القهر ثباتاً .. فازداد الطغاة شراسة وفجوراً لتساق زينب عند أشرهم بطشاً وأشرسهم فظاظة.. إنه شمس بدران.. وما أدراكم من هو شمس بدران !!! وحش بشري قتل ضميره فضاعت إنسانيته على أرصفة الحكم الناصري.. فأمر بأن تعلق زينب على عمود خشبي له قاعدة خشبية وتربط يدها بقدمها لتجلد خمسمائة جلدة.. وتقذف بأشنع الألفاظ .. لكن زينب الغزالي وهبت نفسها لله ودينه ، فهانت الدنيا في قلبها وثبتت على الحق تحتمل ما لا يطيقه عشرة رجال.. متمثلة بقول الشاعر :
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
ليواجهها هذا الوحش البشري بعد كل هذه السياط بجبروت من ضاعت آخرته فاستوحشت دنياه : أين هو ربك لينقذك ؟ فترد عليه بكل ثبات قائلة : ( الله سبحانه الفعال ذو القوة المتين).. أمعنت قوى الباطل في تعذيبها وازداد الطغيان شراسة تفوق شراسة الوحوش الحيوانية .. فالكلاب كما رأتها زينب الغزالي كانت أكثر إنسانية من وحوش البشر .. والفئران التي أطلقوها في زنزانتها خجلت من دعاء المؤمن ففرت تبحث عن مكان آخر .. وأصدر جمال عبد الناصر قراراً بتعذيب زينب الغزالي فوق تعذيب الرجال !!!
فخارت قوى الجسد الضعيف.. وانهارت قدرته على احتمال ما لا يطيقه الرجال.. فكيف بإماء الله !!! وأن الجسد أشرف على الموت فكانوا كلما تهاوى جسدها وشعروا بقرب موتها أدخلوها مستشفى السجن الحربي ليتم إنقاذها.. ليس رحمة منهم بل لينهالوا عليها بمزيد من العذاب.. ولكن الروح تنامت مع كل أنواع السياط وأشكال التعذيب.. وتسامت خفاقة تعلو بهمة المؤمن لتصبح نظرته مرعبة لأعداء الله.. وابتسامته الساخرة خنجراً يقتل طغاة الظلم وأرباب الضلالة.. فأضفت روحها العالية على جسدها المتهاوي قوة لا يمكن لمن لم يتذوق حلاوة الإيمان بالله أن يراها حتى يئس الظلم من مقارعة الحق ... وانحنت السياط ذليلة أمام صبر المؤمنات.. فرغبوا في الخلاص منها باستصدار حكم عليها عبر محاكم طغيانهم بالسجن المؤبد مدى الحياة .. لتبدأ معها رحلة جديدة من المعاناة في حياة زينب الغزالي تستمر إلى أن حلت نكسة عام 1967م وانتكست الأمة تحني جبين الهوان بضياع القدس.. وهوى المسجد الأقصى أسيراً تحت وطأ ة الطوفان الصهيوني المتبجح .. فهل ضاعت القدس يوم النكسة أم أن ضياع القدس كانت نهاية لمسرحية الطغيان والظلم التي كبلت حياة الأمة الإسلامية.. فكان سقوط القدس أمراً متوقعاً لكل من شاهد الإسلام قابعاً في مهاوي السجون وأيدي الظلم تخط توقيعها لإعدام أشهر علماء الأمة في القرن العشرين الشهيد سيد قطب.. ثم يتشدقون في خطاباتهم الرعناء بمحاربة الصهيونية والإمبريالية..
وفي عام 1971م مات جمال عبد الناصر وزينب الغزالي قابعة في السجن تنتظر فرج الله .. ومن يكسر القيد اللعين .. حتى جاء القرار بالإفراج عنها بعد سبعة أعوام من الأسر .. حاولوا تقييدها بشرط عدم الدعوة إلى الله لكنها رفضت فاضطروا للإفراج عنها دون شروط .. لتطوى صفحة من حياة امرأة مسلمة خدمت دينها بروحها فانطوت معها جمعية السيدات المسلمات ومجلتها التي كانت نبراس هدى ومعلم هداية.. غير أن مؤلفاتها الكثيرة لا زالت تخدم الأمة الإسلامية منها كتاب (نظرات في كتاب الله) و (إلى ابنتي) و (نحو بعث جديد) لتبقى زينب الغزالي مشرقة بحروفها بيننا.. رغم انحناء الظهر وكبر العمر لا تنحني لمن أرادوا أن يطفئوا قبساً من نور الله .. والله متم نوره ولو كره الكافرون .. جزى الله زينب الغزالي عن الإسلام كل خير وأمد في عمرها ورزقنا بالكثيرات من أمثالها.
شامخة كالطود ... تزيدها الرياح كبرياء .. والعواصف جرأة .. وهجمات الباطل ثباتاً على مبدأ الحق .. نبتت كبرعم أخضر سقتها العناية الإلهية من ينابيع الإسلام فكبرت واشتد عودها صلابة.. تقاوم به السياط بصدق من اشترى الآخرة بآلام الدنيا..
إنها زينب الغزالي الجبيلي.. العربية الأصل.. وصاحبة النسب القرشي إذ يتصل نسبها من جهة أبيها بالفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. صاحبة اللسان الفصيح والحجة القوية حتى في أحلك الظروف وأكثرها إيلاماً.. سارت في رحلة الحياة موقنة أن ما أصابها لم يكن ليخطئها وما أخطأها لم يكن ليصيبها.
ولدت زينت الغزالي في 2 يناير عام 1917م بإحدى قرى محافظة الدقهلية في مصر.. كان والدها من علماء الأزهر الشريف فرباها على حب الخير والفضيلة.. نمى لديها استعداداً فطرياً لقول الحق وصدق الحديث ورفض الظلم والتصدي له بسلاح الإيمان بالله.. أرادها والدها أن تكون مثل الصحابية الجليلة نسيبة بنت كعب المازنية الأنصارية.. وكان دؤوباً على تسميتها بهذا الاسم.. راغباً في تعويد ابنته الصغيرة على حب الجهاد والذود عن الإسلام.. فصنع لها سيفاً من خشب.. وكان يخط لها دائرة على الأرض لتقف في وسطها ثم يقول لها : اضربي أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فكانت تضرب في حركات وهمية يميناً وشمالاً أماماً وخلفاً لتتربى زينب على ذكرى أناس تطهرت قلوبهم فقويت أجسادهم بنور الإسلام.. وتصاغرت أمامهم مفاتن الدنيا حين عاشت الجنة في قلوبهم فهانت أجسادهم في سبيل الله.. وتاقت أرواحهم لنصرة دينه.. غير أن فرحة زينب الغزالي لم تكتمل إذ مات والدها وهي في سن العاشرة فأحست بضياع أحلامها أمام وفاة من رسم لها طريق الله لتنتقل زينب مع أمها إلى القاهرة حيث يقيم إخوتها فيرى أخوها الأكبر في شخصها الصغير جرأة وقوة يقرر معها أنها لن تكمل تعليمها !!!
لم تجد زينب بداً من طاعة أوامر أخيها الأكبر رغم عدم رضاها بهذا الموقف الذي تتداخل فيه التقاليد مقحمة نفسها فتغلق على فتياتنا أبواب العلم بمنظور خاطئ يراد به المحافظة على عفة الفتاة .. فصبرت على هذا القرار منتظرة الفرج من أقدار السماء .. وفي ظل أيام الانتظار اقتنت زينب العديد من الكتب التي ملأت حياتها وآنست وحدتها .. فحفظت العديد من مقاطع كتب عائشة التيمورية عن المرأة.. وكان هذا بمساعدة شقيقها الأصغر علي الغزالي الذي كان يرى ضرورة تعليمها.. حتى جاء اليوم الذي قررت فيه أقدار السماء أن تعيد زينب إلى خطوات التعليم حين خرجت من منزلها في حي شبرا وكان عمرها اثنتي عشرة سنة.. فرأت مدرسة خاصة للبنات فما كان منها إلا أن طرقت بابها قائلة لبواب المدرسة : جئت لمقابلة مدير المدرسة، فسألها وقد بدت له طفلة صغيرة عن سبب المقابلة، فأردفت له قائلة بكل فخر واعتزاز: أنا السيدة زينب الغزالي الشهيرة بنسيبة بنت كعب المازنية ولدي موعد معه.. فأدخلها البواب وقد ازداد دهشة من فصاحة هذه السيدة اليانعة.. ولما وصلت إلى مدير المدرسة بادرته قائلة : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أنا السيدة زينب الغزالي الشهيرة بنسيبة بنت كعب المازنية ، فدهش المدير ولكنه أصغى إليها بقلب المعلم الذي يتنبه لطلاقة تلميذة وحسن مدخلها ، فقال لها : وماذا تريدين يا سيدة زينب أو يا سيدة نسيبة ؟.. فروت له قصتها مع شقيقها الأكبر وطلبت منه أن يقبلها تلميذة في مدرسته ، فأعجب المدير بفصاحتها وذكائها وحسن حوارها ، ثم أجرى لها اختباراً في بعض الأسئلة فأجابته بثقة عندها طلب منها أن يأتي شقيقها الأصغر ليعتمد انتظامها في المدرسة ..
وهكذا عادت زينب إلى معين العلم تنهل منه بفصاحة وبلاغة تجتاز سنوات التعليم لتثبت للجميع أن الله وهبها إبداعاً يستحق أن يجد ماءً عذباً يغذيه .. فقد ملكت منطق العقل والحجة في قبول البراهين.. ترفض أمامه كل ما يرفضه العقل من نظريات قد تسكن عقول الناس فتحرك بصماتهم دون أن يدركوا صحتها من خطئها .. وبعد حصولها على الثانوية العامة انضمت للاتحاد النسائي الذي تزعمته في تلك الآونة هدى شعراوي والذي كان وقتها صوتاً عالياً يطالب المجتمع بحقوق المرأة لكنه أرادها ضمن شعارات رنانة جوفاء سعت للمساواة مع الرجل ضمن معايير وطرائق وصلت إلى عالمنا العربي مستوردة من أراضي الغرب الذي بات يورد لنا غثه وسمينه لنبتلعه بأفواهنا وعقولنا دون أن نكلف أنفسنا عناء التمحيص في خيره وشره.. فخرجت بذلك المرأة من مطالبها بحقوقها الضائعة والتي غيبتها جهالة المجتمعات العربية حين تناست أن الإسلام منح المرأة تلك الحقوق عبر كتاب الله وسنة رسوله الكريم لتطالب بها عبر منابر أوروبية سعت لتقييد المرأة لا لتحريرها بسلاسل المساواة مع الرجل .. تسرق منها حقوقها لتهبها عبودية وخضوعاً في عالم الإباحية ومستنقع الانحلال .. فشاءت أقدار السماء لزينب الغزالي أن تكون لساناً فصيحاً يخطب لأجل حقوق المرأة في منابر تغطي نواياها السيئة بأقنعة الحقوق !!!
فقد خاضت في سنوات حياتها الأولى نقاشات كثيرة ضد الأزهر من أجل الاتحاد النسائي تكافح ببسالة لنيل حقوق المرأة مؤمنة بكل الشعارات التي نادى بها الاتحاد النسائي.. إلا أنها لم تخرج عن قناعاتها الإسلامية بأن يكون هذا التحرر ضمن الإطار الإسلامي.. وقد لفت هذا الأمر نظر علماء الأزهر وشعروا أن هذه الخطيبة المفوهة مبهورة بشعارات حقوق المرأة ضمن الاتحاد النسائي بما لديها من مقدرة على إقناع الطرف الآخر بوجهة نظرها.. حينها أراد أحد علماء الأزهر وهو الشيخ محمد النجار مناقشتها ليوضح لها بعض الأمور الدينية التي كانت تجهلها .. فتفتحت عيناها على الكثير من القضايا التي رأتها صواباً ضمن الاتحاد النسائي .. وباتت تعرف موقف الإسلام منها حين حرر الإسلام كرامة المرأة قبل أن يحرر حقوقها المادية .. وصان عفتها في عالمه المشرق وقت كان الغرب لا يعرف للمرأة قدراً ولا قيمة .. فعرفت زينب أن الإسلام هو طريق الخلاص بالمرأة لنيل حقوقها .. ولكن كيف لها أن تخرج من الاتحاد النسائي وهي صاحبة الامتياز والحظوة لدى زعيمته هدى شعرواي .. التي رأت فيها أملاً وحجة قوية لانضمام الكثيرات إلى الاتحاد.. حتى جاء ذلك اليوم الذي اختاره الله ليفرق بين الحق والباطل في حياة نسيبة القرن العشرين فتمحي الرمادية في رؤية الأمور ليحل محلها إشراقة الإسلام في حل قضايا الأمة والمرأة.. إذ لا مجال لنيل حقوق المرأة والأمة بأسرها تائهة لا تدري أين تكمن حقوقها !!!
ففي أحد الأيام دخلت زينب مطبخ أسرتها فانفجر بها موقد الغاز.. وطالت النيران وجهها وسائر جسدها.. فكان الطبيب يأتي كل يوم لمعالجة قروحها وحروقها يائساً من شفائها.. ليخبر أهلها بعد أيام أن حالتها في رحمة الله وأن شفاءها ضرب من ضروب المحال طالباً منهم الدعاء لها بالرحمة.. فسمعت بهذا النبأ دون أن يخبرها أحد فما كان منها إلا أن تيممت واجتهدت في العبادة والصلاة استعداداً للموت .. مبتهلة إلى الله بالرجاء والتضرع أن يغفر لها انضمامها إلى جماعة هدى شعرواي.. تتوسل له أن يعيد إليها جسدها كما كان فهو القادر على كل شيء وتعاهده أن تكون بكل كيانها لله ومع الله .. مجاهدة بكل طاقاتها لأجل الدعوة الإسلامية والعودة بالمرأة المسلمة إلى عصر الصحابيات...
ما أروع الإخلاص في الدعاء وما أحلى التوبة الصادقة حين تخرج من قلب أخلص الولاء لله .. فإذا بالجسد الذي قرر الأطباء موته يتماثل للشفاء وإذا بالحروق تبرأ مما بها.. لتعاودها الصحة في معجزة أرادها المولى أن تظل ماثلة أمام قلبها حين تنهال عليها المحن.. فيكون أول عمل تقوم به بعد شفائها هو الاستقالة من جماعة هدى شعراوي وتأسيس جمعية السيدات المسلمات.. لتخرج زينب الغزالي كما يقولون عنها من عالم القبعة إلى عالم الحجاب.. تعود إلى الحق بروح صافية تحمل في جسدها معجزة الشفاء لتبدأ رحلة الإيمان والعهد الذي عاهدت به الشافي.. تنشر الإسلام برؤيا القرن العشرين .. تواجه الصعاب بخطوات واثقة تستمدها من نبع صحابيات عاصرن رسول الله صلى الله عليه وسلم لتثبت للجميع أن المرأة المسلمة هي ذاتها مهما تغيرت العصور وتقلبت الدهور.. ويصبح خطابها المفوه حجة مع الإسلام تطالب بعودة الأمة للدين الصحيح كي تنال المرأة حقوقها ويأخذ الرجل حقوقه ويعود للأمة مجدها وسؤددها الذي فقدته حين استبدلت مشاعل الإسلام بشموع الغرب اللعين .. فسعت لتحرير المرأة ممن يدعون تحريرها بأفواههم ثم يقيدونها بأفعالهم .. ودأبت على الخروج بالمرأة من مستنقعات الرذيلة المقننة بقوانين تحرير المرأة إلى عالم يحفظ للمرأة حقوقها.. فاجتازت زينب بهذا العمل الجليل كل قيود الاستعمار الفكري وخبيث فخاخه.. لتنتشر جمعيتها التي أسستها في أنحاء مصر وتصبح مجلتها السيدات المسلمات معول حق يهدم أفكار التحرر.. وصوتاً يقنع الأمة بالعودة إلى دين الله.. ليلتقي الفكر النير مع الفكر النير في لقاء رباني يحمل راية الدفاع عن الإسلام رغبة في العودة بالمجتمع إلى عصر النبوة وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..حين انضمت زينب الغزالي لجماعة الإخوان المسلمين التي رأت أن العودة إلى دين الله لن تكون بالشعارات الجوفاء إنما بتنشئة رجال الأمة ونسائها وشيوخها وأطفالها على تطبيق حدود الله مع أنفسهم أولاً ثم مع المحيطين بهم فيكون ذلك نواة لنشأة المجتمع المسلم..
ولتحقيق هذا الهدف النبيل تقرر إقامة برنامج شامل يحمل دعاته لواء إعادة المجتمع إلى دين الله ومن ثم مطالبة الدولة بتحكيم شرع الله بدلاً من القوانين الوضعية المطبقة في مصر وفي الكثير من البلدان العربية ..خاصة وأن تلك الفترة ماجت فيها تيارات ومذاهب هدامة باتت تسري في دماء المجتمع المسلم مجرى الدم في العروق .. تطرد في طريقها تعاليم الإسلام بحجة الرجعية وعدم مواكبة العصر .. فحولت الكثير من أبنائه إلى الشيوعية والاشتراكية بدعوى تحرير المجتمع من ظلماء الجهل تحت أقنعة هدفت في أساسها إلى قتل الإسلام.
لكن الله عز وجل تكفل هذا الدين عبر عصوره بعلماء ومصلحين يوقظون في الأمة صحوة تخرجها من مهاوي الذل .. فكانت للأمة يقظة تقف في وجه الفكر الاشتراكي وأنظمه الشيوعية تنفض عن كاهل الدين غبار النسيان عبر سنوات جهل وفتور صنعت في أهله تخلفاً ألصقوه بالإسلام وهو بريء منه .. فكان كتاب في ظلال القرآن يرفرف على دوحة الإسلام مجدداً لفهم القرآن برؤيا القرن العشرين.. يدحض ما يفتريه دعاة الرأسمالية والاشتراكية من دعاوى جمود الإسلام .. وكان رائد هذا الكتاب الغني عن التعريف الشهيد سيد قطب أحد رموز جماعة الإخوان المسلمين التي انضمت إليها زينب الغزالي.. فبدأ نبع الإسلام يعود إلى صفائه بقوة أهله وغدت أنهار الدين القويم تجرف في طريقها كل ما يلقيه الأعداء من صخور صماء يراد بها القضاء على الدين الحنيف.. فغدت مياه التجديد تغذي العائدين إلى الله وكل المتعطشين للنهوض بالأمة الراكدة .. عندها رأت أعين المخابرات الأمريكية والروسية في جماعة الإخوان خطراً مقبلاً وشمساً ستطفئ شموعهم السوداء وسيفاً ذا نصل حاد يقطع الطريق على كل المشككين بالإسلام.. فخافت من هذا الخطر القادم وبدأت تضع المخططات لاغتيال رواد الدعوة رغبة في وأد الحق الوليد. فأشاعت عبر ذيولها أن الإخوان يخططون لقتل جمال عبد الناصر وعدد من شخصيات حكمه البارزة لتوغل في قلب السلطات الحاكمة نيران الحقد على جماعة الإخوان المسلمين .. موهمة أصحاب العقول المتدثرة تحت لواء الاشتراكية أن الإسلام الحق يبني ذاته بطرق الاغتيال.
وقد عبرت زينب الغزالي في كتابها (أيام من حياتي) عن ذلك في قولها : (ليس من أهداف الإخوان المسلمين قتل عبد الناصر.. إن غايتنا أكبر من ذلك بكثير.. إنها الحقيقة الكبرى قضية التوحيد وعبادة الله وإقامة القرآن والسنة) فكان الاعتقال نصيب جماعة الإخوان المسلمين بدءاً من سيد قطب إلى الإمام حسن الهضيبي وصولاً إلى زينب الغزالي والآلاف المؤلفة من دعاة الحق.. الذي ساقتهم أيدي الضلال إلى سجون الظلم افتراء وبهتاناً بدعايات مضللة تؤلب قلوب الجماهير على جماعة الإخوان .. حجتهم في ذلك التخطيط لقتل جمال عبد الناصر !!!
ففي يوم 20 أغسطس لعام 1964م اقتحمت المخابرات المصرية منزل زينب الغزالي وعاثت به فساداً ما بين إتلاف وتكسير وتمزيق .. حتى لم يسلم من أيديهم شيء !!! وحين حاولت أن تخاطبهم بلغة القانون الذي يحتكمون إليه فسألتهم عن إذن التفتيش صرخوا في وجهها يتقهقهون إذن تفتيش في حكم عبد الناصر !! ثم ألقي القبض عليها وسيقت إلى السجن الحربي.. لتبدأ رحلة التعذيب من قبل طغاة أخذتهم العزة بالإثم .. لا يتورعون عن فعل أي شيء يندى له جبين الإنسانية.. بدءاً من التجريح بأقذع الألفاظ التي ترفضها كل الأعراف الدولية انتقالاً إلى الجلد بالسياط ونهش الكلاب المسعورة.. أملاً منهم في إجبارها على الإقرار بأن هناك خطة تهدف لقتل جمال عبد الناصر وضعها جماعة الإخوان المسلمون .. ولما فشلت قوى البغي والضلال في إجبار زينب الغزالي على قول الباطل لخدمة مآربهم أمعنت في تعذيبها ظناً منهم أن النيل من الأبدان يزهق الأرواح .. فصمدت زينب أيما صمود.. وتحملت مالا يحتمله عتاة الرجال..
لندع زينب الغزالي تروي لنا عن أحد هذه المواقف العصيبة ( فتح باب لحجرة مظلمة فدخلت وقلت : باسم الله السلام عليكم.. وأغلق الباب وأضيئت الكهرباء قوية !! إنها للتعذيب ! الحجرة مليئة بالكلاب ! لا أدري كم !! أغمضت عيني ووضعت يدي على صدري من شدة الفزع .. وسمعت باب الحجرة يغلق بالسلاسل والأقفال .. وتعلقت الكلاب بكل جسمي.. رأسي ويدي وصدري وظهري.. كل موضع في جسمي.. أحسست أن أنياب الكلاب تغوص فيه .. فتحت عيني من شدة الفزع وبسرعة أغمضتهما لهول ما أرى .. وضعت يدي تحت إبطي وأخذت أتلو أسماء الله الحسنى مبتدئة بـ "يا الله يا الله".. وأخذت أنتقل من اسم إلى اسم.. والكلاب تتسلق جسدي كله ... أحس بأنيابها في فروة رأسي .. في كتفي.. في ظهري.. أحسها في صدري في كل جسدي .. أخذت أنادي ربي هاتفة: "اللهم اشغلني بك عمن سواك.. اشغلني بك أنت يا إلهي يا واحد يا أحد يا فرد يا صمد.. خذني من عالم الصورة.. اشغلني عن هذه الأغيار كلها.. اشغلني بك.. أوقفني في حضرتك.. اصبغني بسكنتك.. ألبسني أردية محبتك.. ارزقني الشهادة فيك .. والحب فيك والرضا بك والمودة لك وثبت الأقدام يا الله .. أقدام الموحدين " كل هذا كنت أقوله في سري .. والكلاب نابشة أنيابها في جسدي.. مرت ساعات ثم فتح الباب وأخرجت من الحجرة.. كنت أتصور أن ثيابي البيضاء مغموسة بالدماء.. ولكن ويا لدهشتي الثياب.. كأن لم يكن بها شيء .. كأن ناب واحد لم ينشب في جسدي.. سبحانك يا الله أنت معي.. يا الله هل أستحق فضلك وكرمك ؟.. كل هذا كنت أقوله في سري فالشيطان ممسك بذراعي يسألني : كيف لم تمزقك الكلاب ؟).
كان هذا هو بداية العذاب في رحلة السجن التي عاشتها زينب الغزالي.. فقد انهالت عليها سياط الشر اللعين بدءاً من خمسين جلدة وصولا إلى خمسمائة جلدة .. تنصب على جسد امرأة قالت : ربي الله .. هؤلاء هم فرسان دعاة التحرر والأفواه المعطرة بكلمات الاشتراكية.. لكن زينب ازدادت مع العذاب تصميماً ومع القهر ثباتاً .. فازداد الطغاة شراسة وفجوراً لتساق زينب عند أشرهم بطشاً وأشرسهم فظاظة.. إنه شمس بدران.. وما أدراكم من هو شمس بدران !!! وحش بشري قتل ضميره فضاعت إنسانيته على أرصفة الحكم الناصري.. فأمر بأن تعلق زينب على عمود خشبي له قاعدة خشبية وتربط يدها بقدمها لتجلد خمسمائة جلدة.. وتقذف بأشنع الألفاظ .. لكن زينب الغزالي وهبت نفسها لله ودينه ، فهانت الدنيا في قلبها وثبتت على الحق تحتمل ما لا يطيقه عشرة رجال.. متمثلة بقول الشاعر :
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
ليواجهها هذا الوحش البشري بعد كل هذه السياط بجبروت من ضاعت آخرته فاستوحشت دنياه : أين هو ربك لينقذك ؟ فترد عليه بكل ثبات قائلة : ( الله سبحانه الفعال ذو القوة المتين).. أمعنت قوى الباطل في تعذيبها وازداد الطغيان شراسة تفوق شراسة الوحوش الحيوانية .. فالكلاب كما رأتها زينب الغزالي كانت أكثر إنسانية من وحوش البشر .. والفئران التي أطلقوها في زنزانتها خجلت من دعاء المؤمن ففرت تبحث عن مكان آخر .. وأصدر جمال عبد الناصر قراراً بتعذيب زينب الغزالي فوق تعذيب الرجال !!!
فخارت قوى الجسد الضعيف.. وانهارت قدرته على احتمال ما لا يطيقه الرجال.. فكيف بإماء الله !!! وأن الجسد أشرف على الموت فكانوا كلما تهاوى جسدها وشعروا بقرب موتها أدخلوها مستشفى السجن الحربي ليتم إنقاذها.. ليس رحمة منهم بل لينهالوا عليها بمزيد من العذاب.. ولكن الروح تنامت مع كل أنواع السياط وأشكال التعذيب.. وتسامت خفاقة تعلو بهمة المؤمن لتصبح نظرته مرعبة لأعداء الله.. وابتسامته الساخرة خنجراً يقتل طغاة الظلم وأرباب الضلالة.. فأضفت روحها العالية على جسدها المتهاوي قوة لا يمكن لمن لم يتذوق حلاوة الإيمان بالله أن يراها حتى يئس الظلم من مقارعة الحق ... وانحنت السياط ذليلة أمام صبر المؤمنات.. فرغبوا في الخلاص منها باستصدار حكم عليها عبر محاكم طغيانهم بالسجن المؤبد مدى الحياة .. لتبدأ معها رحلة جديدة من المعاناة في حياة زينب الغزالي تستمر إلى أن حلت نكسة عام 1967م وانتكست الأمة تحني جبين الهوان بضياع القدس.. وهوى المسجد الأقصى أسيراً تحت وطأ ة الطوفان الصهيوني المتبجح .. فهل ضاعت القدس يوم النكسة أم أن ضياع القدس كانت نهاية لمسرحية الطغيان والظلم التي كبلت حياة الأمة الإسلامية.. فكان سقوط القدس أمراً متوقعاً لكل من شاهد الإسلام قابعاً في مهاوي السجون وأيدي الظلم تخط توقيعها لإعدام أشهر علماء الأمة في القرن العشرين الشهيد سيد قطب.. ثم يتشدقون في خطاباتهم الرعناء بمحاربة الصهيونية والإمبريالية..
وفي عام 1971م مات جمال عبد الناصر وزينب الغزالي قابعة في السجن تنتظر فرج الله .. ومن يكسر القيد اللعين .. حتى جاء القرار بالإفراج عنها بعد سبعة أعوام من الأسر .. حاولوا تقييدها بشرط عدم الدعوة إلى الله لكنها رفضت فاضطروا للإفراج عنها دون شروط .. لتطوى صفحة من حياة امرأة مسلمة خدمت دينها بروحها فانطوت معها جمعية السيدات المسلمات ومجلتها التي كانت نبراس هدى ومعلم هداية.. غير أن مؤلفاتها الكثيرة لا زالت تخدم الأمة الإسلامية منها كتاب (نظرات في كتاب الله) و (إلى ابنتي) و (نحو بعث جديد) لتبقى زينب الغزالي مشرقة بحروفها بيننا.. رغم انحناء الظهر وكبر العمر لا تنحني لمن أرادوا أن يطفئوا قبساً من نور الله .. والله متم نوره ولو كره الكافرون .. جزى الله زينب الغزالي عن الإسلام كل خير وأمد في عمرها ورزقنا بالكثيرات من أمثالها.