فتحت الباب بهدوء ...وأطلت بوجهها الصغير وعينيها السوداوين اللامعتين :....
وقالت على استحياء "ماما ممكن تجي عندي شوي ".....هذه جملة اعتادت الأم على سماعها من ابنتها الوحيدة والتي بدأت تتخطى الثلاثة عشر ربيعا بكل حيوية وثقة ..
ولم يكن من الأم المسكينة إلا أنها استسلمت لرغبة ابنتها فقامت على مهل وهي تتخيل ترتيب الأحداث في ذهنها ..
قالت " شوي "
...يالله .وأنَّى لطفل اختلى بأمه أن يطلقها بسهولة ....
صعدت الدرج بهدوء ابنة الأربعين التي مازادتها هذه السنين الطوال إلا تعقلا ونضجا وعطفا على كل من حولها ...
ودارت الأفكار في رأسها .." أنا متعبة ...هذا صحيح ولكم أتمنى لو استلقي على فراشي الوثير وأتصفح كتابا ما يرخي اعصابي بل وجسدي أيضا فأغفو قريرة العين هانئة ..
أو أمد قدميّ الواقفتين دوما وأقلب في القنوات الفضائية عسى أن يمن الله علي بما يحيا به قلبي من ذكر أو فكر او خيال ..
أو وهذا أحسن الأحوال وأسعدها أن يفرغ زوجي مما يشغله فيتسامر معي ويؤانسني ...
ولكن الآن عليَّ أن أن أصعد معها ..
"حسنا ياحبيبتي ...هانحن معا ..."
ولم يكن من العسير عليها أن تدرك ما تريده ابنتها ...
دقائق تخلو بها معها ..دون أن يشاركها بأمها أحد من إخوتها الثلاثة ..
وكعادة الفتاة بدأت بترتيب غرفتها وتحسينها .
فلم تكن تتوقع أن أمها ستستجيب لرغبتها سريعا ولم يكن لديها الوقت الكافي لتهيئة الغرفة لأستقبال أمها الغالية ...فهي تعرف كره الأم للفوضى..وهاهي تسرع فتخفي كتبها في حقيبتها المدرسية ..وتلقي معطفها بعناية على كرسي المكتب ...وترتب ما تناثر من أشيائها الشخصية هنا وهناك ..
"هل نصلي العشاء معا يا أمي ؟ ".....
سؤال اعتادت على سماعه من ابنائها ...
لطالما تمنت أن تسمعه ..لطالما حاولت أن تحبب لأبنائها الدين والصلاة والقرآن وهاهي تقطف ثمار جهدها فلمَ التأفف...
الحمد لله حدثت الأم نفسها بهذا وهي تتخيل طفولة ابنائها ورأت نفسها تجلس قرب سرير الواحد منهم الساعات الطوال تقرأ له القرآن حتى يغفو هانيء البال .ولربما يطول به السهر فيطول بها المقام ..
أو تجدها تستلقي قرب الآخر تفتعل النعاس وتتثاءب المرة بعد الأخرى لعل عدوى النعاس تنتقل لولدها فيريحها بنومه ..ولم تكن تعلم وقتها أن التثاؤب من الشيطان وإلا لما فعلتها ..
"هيا يا حبيبتي انزلي وتوضأي ولاتتسكعي فأنا بانتظارك "...
ولكن هل سينقضي الأمر بالصلاة معها ...
كانت الأم تعلم تماما أن لا ..فالبنت ستحاول جهدها أن تؤخر أمها قدر إمكانها ولهذا استأذنتها قائلة : " ماما هل أقرأ عليك مقالة للشيخ الطنطاوي ..حلوة جدا ياماما ..اسمها شيخ في مرقص "
وكأن هذا الاسم الحبيب جذب انتباه الأم وشغل بالها العنوان الغريب " شيخ في مرقص " وغدت بشوق لسماع تلك القصة ...
وبدأت الصغيرة تقرأ ..الصفحة تلو الصفحة ...والموقف بعد الآخر فتارة تضحكان معا وتارة أخرى تجيش في نفسيهما عواطف سامية هيَّجها هذا الكاتب الداعية - رحمه الله - بأسلوبه الهاديء وسرده الرائع ....
ومرّ الوقت ومن مقال لآخر بدأ النعاس يتسرب للأم الحالمة بسهرة هادئة لتغفو على صوت ابنتها الفرِح ..وبعد حين استيقظت ....ولم تكن تعقل كم نامت ...ونزلت إلى غرفتها لتكمل ليلتها ..
هاهو يوم جديد يمضي ويطوي معه فصلا من فصول عمرها الذي يمضي سريعا دون أن تقدر على الإمساك بأطراف خيوطه ...
فحيّا على الغد وما يحمله في ثناياه ….