وداعًا .. رسول الله
الداعية عمرو خالد يروي الوقائع المهيبة لأحداث تلك الأيام الأخيرة من حياة الرسول العظيم محمد " صلى الله عليه وسلم ".
يقول:
نزلت الآية الأخيرة من القرآن الكريم قبل وفاة النبي " صلى الله عليه وسلم " بأقل من أسبوعين:
" واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون" ..
وبعد نزول هذه الآية يفكر النبي طويلاً كأنه يستعرض شريط الذكريات.
غار
حراء ونزول جبريل وقوله له: اقرأ وقوله للسيدة خديجة: مضى زمن النوم يا
خديجة .. 23 عاماً دون نوم .. ووقفته على جبل الصفا يدعو الناس إلى دين
الله ويعلن الإسلام، ونعت المشركين له بأنه مذمم، وإيذاؤهم له حين ألقى
عليه عقبة بن أبي معيط أمعاء جمل ميت وهو ساجد يصلي، وحين لف عقبة بن أبي
معيط عباءته على عنق النبي ليخنقه .. كما يتذكر النبي " صلى الله عليه
وسلم " حين ذهب إلى الطائف فطاردوه بالحجارة، وراح يدعو الله: اللهم إني
أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت رب العالمين ، أنت
رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ ثم تكريم الله سبحانه له برحلتي
الإسراء والمعراج.
ويوم الخندق حين حمل التراب على كتفه، ويوم حنين
حين قال: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ويوم أحد حين سقط في الحفرة
وتكسرت أسنانه وضرب على خوذته فرشق حديد الخوذة في لحم وعظام رأسه .
وحين
أتاه ملك الجبال يقول له: لو شئت أطبق عليهم الأخشبين ، فيقول له: لا ..
عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله، ثم وقوفه على جبل الصفا ليقول
لقريش: ما تظنون أني فاعل بكم؟ لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم،
اذهبوا فأنتم الطلقاء.
دمـوع النبي
يطلب النبي بعد نزول الآية الآخيرة،ـ وقبل 13 يوماً من وفاته، أن يزور شهداء أحد، كأنه أراد توديع الأحياء والأموات.
يخرج
النبي " صلى الله عليه وسلم " ويقف أمام شهداء أحد وينظر إلى أرض المعركة
كأنه يتذكر الذين ضحوا، يتذكر طلحة وهو يقول: نحري دون نحرك يا رسول الله،
وأم عمارة وهي غارقة في دمائها فترد ابنها الذي جاء ينقذها وتقول له: دعني
أنقذ رسول الله " صلى الله عليه وسلم " فيقول لها النبي: من يطيق ما
تطيقين يا أم عمارة، فتقول أطيق وأطيق وأطيق ولكن أسألك مرافقتك في الجنة
، فيقول لها: لست وحدك، أنت وأهل بيتك، أنتم رفقائي في الجنة.
يقف النبي أمام شهداء أحد ويقول: السلام عليكم يا شهداء أحد أنتم السابقون وأنا إن شاء الله بكم لاحق.
ويرجع
النبي وهو يبكي، وسألوه لمَ تبكي يا رسول الله؟ فقال: اشتقت إلى إخواني،
فقالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله، قال لا أنتم أصحابي، أما إخواني فقوم
يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني .. اشتقت إليهم فبكيت ، وكان معه عند
عودته من عند شهداء أحد رجل اسمه أبو مويهبة .. يقول له النبي: يا أبا
مويهبة أريد أن أزور البقيع، فيزور النبي البقيع.
" المدهش أن
البيوت في عصرنا إذا اقتربت من المقابر يقل سعرها، لكن كلما اقتربت البيوت
من البقيع يزداد سعرها .. والبقيع قطعة من الجنة.
اشتـقـت للـقـاء ربـي
يدخل
النبي البقيع مع أبي مويهبة ويقول له: أتعرف يا أبا مويهبة لقد خيرت بين
أن أملك مفاتيح خزائن الدنيا وأخلد فيها وبين أن ألقى ربي وأدخل الجنة.
فقال
أبو مويهبة : بأبي أنت وأمي يا رسول الله اختر أن تملك خزائن الدنيا وتبقى
فيها مخلداً، فقال النبي: لا يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي ويمرض
النبي مرضاً شديداً.
فيصلي بالناس وهو مثقل لمدة 11 يوماً، لكنه في
الأيام الأربعة الأخيرة من حياته لا يستطيع الصلاة بالناس ثم يحس النبي
ببعض التحسن في صحته، فيخرج من باب بيته، فيهم أبو بكر أن يرجع عن إمامة
الناس لكن النبي يشير إليه أن ابق مكانك، فيبقى أبو بكر في مكانه ويأتم به
النبي، فيصلي جالساً، وبعد انتهاء الصلاة يقول النبي: إن الله عز وجل يأبى
أن يقبض نبياً من أنبيائه إلا بعد أن يؤم برجل من أمته، لكي تكتمل
الرسالة، ويأتي من يحملها.
في بيـت عـائشـة
في الأيام الثلاثة الأخيرة الباقية من حياة الرسول .. ماذا حدث؟
يشتد
المرض على النبي، فينادي على زوجاته، فتجتمع الزوجات وكانت هذه ليلة
السيدة ميمونة، فيقول لهن النبي: أتأذنّ لي أن أمرض في بيت عائشة؟
فقلن:
نأذن لك يا رسول الله .. فأراد أن يقوم فما استطاع .. فجاء علي بن أبي
طالب والفضل بن العباس وحملا النبي " صلى الله عليه وسلم " وخرجوا من بيت
ميمونة إلى بيت عائشة، ورأى الصحابة النبي محمولاً فجزعوا وامتلأ المسجد
النبوي بالناس في تزاحم شديد لمعرفة ما حدث لرسول الله، وبدأ النبي صلى
الله عليه وسلم " يردد: لا إله إلا الله ، إن للموت لسكرات، ويتصبب عرقاً،
وكلما مسح العرق وجففه، ازدادا عرقاً. تقول السيدة عائشة: فأخذت يده أمسح
بها العرق.
قالوا لها : لما لم تمسحي العرق بيدك أنت؟
قالت: لأن يد النبي أكرم من يدي.
تقول: فتذكرت أنه كان يدعو للمرضى وللضعفاء بوضع يده على رؤوسهم ويقول :
" اللهم رب الناس أذهب البأس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك .. شفاء لا يغادر سقماً.
تقول: فوضعت يده على رأسه وظللت أدعو بها. فأنزل يده وقال: لا يا عائشة لا ينفع الآن، تقول: فعرفت أنه ميت.
وبدأ صوت الصحابة في المسجد يعلو: ماذا أصاب رسول الله؟
فسمع النبي أصوات الناس وقال: ما هذا؟
قالوا: يخافون عليك يا رسول الله، فقال : احملوني إليهم.
وأراد أن ينهض فما استطاع.
فأتوا بقربة ماء يصبونها على النبي " صلى الله عليه وسلم " لكي يفيق، صبوا عليه سبع قرب، حتى قال: حسبكم حسبكم.
اللــقاء الأخـــير
حمل الصحابة النبي " صلى الله عليه وسلم " إلى المنبر، وصعدوا به فسكت الناس وقال آخر وصاياه في آخر خطبة للمسلمين: أيها الناس.
لكأنكم تخافون عليّ.
فقالوا: نعم يا رسول الله.
قال: أيها الناس موعدكم معي ليس الدنيا .. موعدكم معي عند الحوض، والله لكأني أنظر إليه من مقامي هذا.
أيها الناس.. والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم الدنيا أن
تتنافسوها، كما تنافسها الذين من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم.
أيها الناس.. إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين لقاء الله فاختار لقاء الله.
ولم
يفهم أحد ماذا يقصد النبي بالعبد الذي خيره الله، إلا أبا بكر الصديق الذي
ارتفع نشيجه في المسجد.. ثم وقف وقال: فديتك بأبي، فديتك بأمي، فديتك
بولدي، فديتك بمالي، فديتك بكل ما أملك، فنظر الناس إلى أبي بكر، لأنهم لم
يتعودوا أن يقاطع أحد النبي، فتوقف النبي عن الاستمرار في الخطبة لكي
يدافع عن أبي بكر، وقال: أيها الناس.. دعوا أبا بكر فما منكم من أحد كان
له عليّ فضل، إلا كافأته به إلا أبا بكر لم أستطع مكافأته، فتركت مكافأته
إلى الله عز وجل.
كل الأبواب تغلق عن المسجد إلا باب أبي بكر لا يغلق أبداً.
ثم
قال النبي: أيها الناس.. من كنت قد جلدت له ظهراً. فهذا ظهري فليقتص مني،
ومن كنت قد أخذت منه مالاً، فهذا مالي فليقتص مني، ومن كنت قد شتمت له
عرضاً، هذا عرضي فليقتص مني.
فإني أحب أن ألقى الله نقياً، ولا يخشى الشحناء فإنها ليست من طبعي..
فقام رجل وقال: لك علي ثلاثة دراهم، فقال النبي: جزاك الله خيراً، أعطه يا عباس الدراهم الثلاثة.
ثم قال النبي: أيها الناس، الله الله في الصلاة، الله الله في الصلاة، وظل يرددها.
ثم قال: أيها الناس.. الله الله في صلة الأرحام، أيها الناس.. الله الله في النساء، أوصيكم بالنساء خيراً، أوصيكم بالأنصار خيراً.
ثم قال: أواكم الله، نصركم الله، حفظكم الله، أيدكم الله، ثبتكم الله، أواكم الله، رفعكم الله، حفظكم الله، نصركم الله.
وقبل أن ينزل من المنبر قال: أيها الناس أبلغوا مني السلام كل من تبعني من أمتي إلى يوم القيامة.
ونزل النبي صلى الله عليه وسلم وعاد إلى بيت السيدة عائشة.
ســر بكـاء فـاطمـة
تقول
السيدة عائشة: بعد هذه الخطبة دخلت عليه ابنته فاطمة، فقال لها: ادنُ مني
يا فاطمة، وأسر لها في أذنها كلمة فبكت، ثم ناداها لتقترب منه مرة أخرى،
وقال لها هامساً بكلمة أخرى، فضحكت، وبعد أن مات سألوها: ماذا قال لك
النبي؟
قالت: قال لي في المرة الأولى إني ميت الليلة. فبكيت...
فلما وجد بكائي: قال لي: أنت أول أهلي لحاقاً بي، فضحكت.
كان
أبو بكر يصلي الفجر بالناس فنهض النبي وفتح باب غرفته المطلة على الروضة
وهو الباب الذي كان يخرج منه إلى المسجد، ولم يكن يخرج من هذا الباب غيره.
رأي النبي أبا بكر يصلي بالجموع التي أصابها القلق الشديد على رسول الله، فكانت لا تغادر المسجد إلى بيوتها.
ابتسم النبي حين رأى الجموع تصلي خلف أبي بكر، وكانت آخر ابتسامة للنبي من أجل الصلاة.
يقولون:
فأحسسنا بالنبي وهو ينظر إلينا ويبتسم، فكدنا نخرج من الصلاة فرحاً برسول
الله صلى الله عليه وسلم، فأشار النبي إلينا أن نظل في أماكننا، فكنا
نسترق النظر إليه والله كأن الشمس طلعت علينا، ولم نر رسول الله أجمل ولا
أنور من تلك الليلة.
ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته، وجاءت الوفاة عند شروق شمس يوم الاثنين.
لقد ولد عند شروق الشمس، ويموت عند شروق الشمس.
مـوت بالاسـتئـذان
كيف مات النبي صلى الله عليه وسلم؟
كان يركن رأسه على صدر عائشة، لم يمت وهو يقرأ القرآن أو وهو يصلي أو أثناء إحدى حروبه.
تقول السيدة عائشة: والله .. مات رسول الله في سحري ونحري، "ما بين رئتي وصدري"، هذا هو الحب في بيت النبوة.
كان
يضع رأسه الطاهر على صدر عائشة، ثم بدأ يتمتم: بل الرفيق الأعلى... بل
الرفيق الأعلى، تقول السيدة عائشة: كان جبريل قد دخل على النبي قائلاً:
السلام عليك يا رسول الله.
فتسمع عائشة النبي وهو يقول: عليك السلام يا جبريل.. فتفهم أن جبريل في بيتها.
يقول له جبريل: يا رسول الله معي ملك الموت يستأذن أن يدخل عليك، ولن يستأذن على أحد من بعدك.
فيقول له النبي: ائذن له يا جبريل.
فيدخل
ملك الموت: السلام عليك يا رسول الله، أرسلني ربي أخيرك بين البقاء في
الدنيا وبين لقاء الله، فيرفع النبي إصبعه السبابة إلى السماء ويقول: بل
الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى. تقول السيدة عائشة: فعرفت أنه يخير،
وقلت إذاً لن يختارنا.
فقالت: خُيّرتَ فاخترتَ والذي بعثك بالحق فظل النبي يقول: بل الرفيق الأعلى ويبتسم وهو في صدر السيدة عائشة.
ويقف ملك الموت عند رأس النبي ويقول: أيتها الروح الطيبة. روح محمد بن عبد الله اخرجي إلى رضا من الله ورضوان ورب راض غير غضبان.
تقول
السيدة عائشة: فسقطت يد النبي صلى الله عليه وسلم وثقل رأسه في صدري،
فعرفت أنه قد مات، فلم أدرِ ما أفعل، فما كان مني غير أن فتحت الباب الذي
كان يخرج منه النبي، فنظر إليّ المسلمون بدهشة، فصرخت فيهم أقول: مات رسول
الله.. مات رسول الله.
فانفجر المسجد بالبكاء.. تقول عائشة: وأنا
لا أتمالك نفسي، أصرخ: مات رسول الله، مات رسول الله، فجلس علي بن أبي
طالب ولم يستطع القيام وظل عثمان بن عفان يدور حول نفسه والصحابة يأخذون
بيده يمنة ويسرة.
وتحاول فاطمة الصبر والتماسك كما أمرها النبي
فظلت تقول: يا أبتاه.. أجاب رباً دعاه.. يا أبتاه.. جنة الفردوس مأواه..
يا أبتاه.. إلى جبريل ننعاه.
أما عمر بن الخطاب فأمسك بالسيف وقال: من قال أنه قد مات قطعت رأسه، إنما ذهب للقاء ربه وسيعود.
حكـمة أبي بكر
أما
أثبت الناس فكان أبا بكر الصديق الذي دخل على النبي واحتضنه، وتأكد أنه قد
مات، وظل يقبله ويقول: واحبيباه، وانبياه، واخليلاه، ثم نظر إلى وجه النبي
الجميل وهو ميت وقال: ما أجملك حياً وما أجملك ميتاً يا رسول الله.. طبت
حياً وطبت ميتاً يا رسول لله.
ثم خرج من البيت وقال: اسكت يا عمر.
أيها الناس.. من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
"وما
محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين"
يقول
عمر فكأني أسمعها لأول مرة، فعرفت أنه قد مات، فخرجت من المسجد أبكي،
وأبحث عن مكان أبكي وأصرخ فيه وحدي فناداني أبو بكر وقال يا عمر رسالة
النبي.
ويجتمع المسلمون قبل غسل النبي ودفنه ويختارون أبا بكر
الصديق، ويبايع أبو بكر قبل دفن النبي صلى الله عليه وسلم.. يقول علي بن
أبي طالب: أمرني النبي أن أغسله في ثيابه، ودخل أهل بيت النبي ليغسلوه علي
والعباس والفضل بن العباس وأسامة بن زيد، وجاء رجل اسمه أوس من الأنصار
قال: يا علي أين نصيب الأنصار في رسول الله.. دعوني أغسل النبي معهم.
فكان العباس وابنه الفضل يقبلان جثمان النبي وأسامة بن زيد يسكب الماء، وقام علي بن أبي طالب يغسل النبي.
ودخلت المجموعات لتصلي على النبي، وكانت أول مجموعة تضم أبا بكر وعمر.
فوقف عمر يقول:
أشهد
أنك قد أديت الرسالة وبلغت الأمانة ونصحت الأمة، وجاهدت في سبيل دينك حتى
أتاك اليقين، فجزاك الله عنا خيراً، ثم دخلت النساء يصلين على النبي، ثم
دخل الأطفال، ثم جاء وقت الدفن فتساءل الصحابة: كيف نهيل التراب على رسول
الله؟
فتذكروا حديث النبي حين قال لهم: حياتي خير لكم ووفاتي خير
لكم، حياتي خير لكم أهديكم إلى الخير، ووفاتي خير لكم تعرض عليّ أعمالكم
يوم الخميس فما كان فيها من خير حمدت الله، وما فيها من شر استغفرت لكم
الله.
فقالوا: يا رسول الله أو تعرفنا بعد مماتك؟
قال: أعرفكم بأنسابكم وأسمائكم.
فقالوا: كيف تدعو لنا وقد أكلك الدود؟
قال: إن الله حرم الأرض على أجساد الأنبياء.
فبدؤوا يهيلون التراب عليه وقبل إغلاق المقبرة جاء المغيرة بن شعبة وألقى خاتمه فيها وصاح: انتظروا فقدت خاتمي.
فقالوا
له: انزل إلى المقبرة، فنزل واحتضن النبي صلى الله عليه وسلم وظل يبكي
ويقول: أحببت أن أكون آخر من يودعك يا رسول الله.. وأخذ خاتمه وخرج ودفن
النبي.
منقول لإفاذة و شكرا....
اللهم اسقنا من حوض نبيك واجمعنا معه في الجنة أمييييين يا رب.
الداعية عمرو خالد يروي الوقائع المهيبة لأحداث تلك الأيام الأخيرة من حياة الرسول العظيم محمد " صلى الله عليه وسلم ".
يقول:
نزلت الآية الأخيرة من القرآن الكريم قبل وفاة النبي " صلى الله عليه وسلم " بأقل من أسبوعين:
" واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون" ..
وبعد نزول هذه الآية يفكر النبي طويلاً كأنه يستعرض شريط الذكريات.
غار
حراء ونزول جبريل وقوله له: اقرأ وقوله للسيدة خديجة: مضى زمن النوم يا
خديجة .. 23 عاماً دون نوم .. ووقفته على جبل الصفا يدعو الناس إلى دين
الله ويعلن الإسلام، ونعت المشركين له بأنه مذمم، وإيذاؤهم له حين ألقى
عليه عقبة بن أبي معيط أمعاء جمل ميت وهو ساجد يصلي، وحين لف عقبة بن أبي
معيط عباءته على عنق النبي ليخنقه .. كما يتذكر النبي " صلى الله عليه
وسلم " حين ذهب إلى الطائف فطاردوه بالحجارة، وراح يدعو الله: اللهم إني
أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أنت رب العالمين ، أنت
رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ ثم تكريم الله سبحانه له برحلتي
الإسراء والمعراج.
ويوم الخندق حين حمل التراب على كتفه، ويوم حنين
حين قال: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ويوم أحد حين سقط في الحفرة
وتكسرت أسنانه وضرب على خوذته فرشق حديد الخوذة في لحم وعظام رأسه .
وحين
أتاه ملك الجبال يقول له: لو شئت أطبق عليهم الأخشبين ، فيقول له: لا ..
عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله، ثم وقوفه على جبل الصفا ليقول
لقريش: ما تظنون أني فاعل بكم؟ لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم،
اذهبوا فأنتم الطلقاء.
دمـوع النبي
يطلب النبي بعد نزول الآية الآخيرة،ـ وقبل 13 يوماً من وفاته، أن يزور شهداء أحد، كأنه أراد توديع الأحياء والأموات.
يخرج
النبي " صلى الله عليه وسلم " ويقف أمام شهداء أحد وينظر إلى أرض المعركة
كأنه يتذكر الذين ضحوا، يتذكر طلحة وهو يقول: نحري دون نحرك يا رسول الله،
وأم عمارة وهي غارقة في دمائها فترد ابنها الذي جاء ينقذها وتقول له: دعني
أنقذ رسول الله " صلى الله عليه وسلم " فيقول لها النبي: من يطيق ما
تطيقين يا أم عمارة، فتقول أطيق وأطيق وأطيق ولكن أسألك مرافقتك في الجنة
، فيقول لها: لست وحدك، أنت وأهل بيتك، أنتم رفقائي في الجنة.
يقف النبي أمام شهداء أحد ويقول: السلام عليكم يا شهداء أحد أنتم السابقون وأنا إن شاء الله بكم لاحق.
ويرجع
النبي وهو يبكي، وسألوه لمَ تبكي يا رسول الله؟ فقال: اشتقت إلى إخواني،
فقالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله، قال لا أنتم أصحابي، أما إخواني فقوم
يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني .. اشتقت إليهم فبكيت ، وكان معه عند
عودته من عند شهداء أحد رجل اسمه أبو مويهبة .. يقول له النبي: يا أبا
مويهبة أريد أن أزور البقيع، فيزور النبي البقيع.
" المدهش أن
البيوت في عصرنا إذا اقتربت من المقابر يقل سعرها، لكن كلما اقتربت البيوت
من البقيع يزداد سعرها .. والبقيع قطعة من الجنة.
اشتـقـت للـقـاء ربـي
يدخل
النبي البقيع مع أبي مويهبة ويقول له: أتعرف يا أبا مويهبة لقد خيرت بين
أن أملك مفاتيح خزائن الدنيا وأخلد فيها وبين أن ألقى ربي وأدخل الجنة.
فقال
أبو مويهبة : بأبي أنت وأمي يا رسول الله اختر أن تملك خزائن الدنيا وتبقى
فيها مخلداً، فقال النبي: لا يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي ويمرض
النبي مرضاً شديداً.
فيصلي بالناس وهو مثقل لمدة 11 يوماً، لكنه في
الأيام الأربعة الأخيرة من حياته لا يستطيع الصلاة بالناس ثم يحس النبي
ببعض التحسن في صحته، فيخرج من باب بيته، فيهم أبو بكر أن يرجع عن إمامة
الناس لكن النبي يشير إليه أن ابق مكانك، فيبقى أبو بكر في مكانه ويأتم به
النبي، فيصلي جالساً، وبعد انتهاء الصلاة يقول النبي: إن الله عز وجل يأبى
أن يقبض نبياً من أنبيائه إلا بعد أن يؤم برجل من أمته، لكي تكتمل
الرسالة، ويأتي من يحملها.
في بيـت عـائشـة
في الأيام الثلاثة الأخيرة الباقية من حياة الرسول .. ماذا حدث؟
يشتد
المرض على النبي، فينادي على زوجاته، فتجتمع الزوجات وكانت هذه ليلة
السيدة ميمونة، فيقول لهن النبي: أتأذنّ لي أن أمرض في بيت عائشة؟
فقلن:
نأذن لك يا رسول الله .. فأراد أن يقوم فما استطاع .. فجاء علي بن أبي
طالب والفضل بن العباس وحملا النبي " صلى الله عليه وسلم " وخرجوا من بيت
ميمونة إلى بيت عائشة، ورأى الصحابة النبي محمولاً فجزعوا وامتلأ المسجد
النبوي بالناس في تزاحم شديد لمعرفة ما حدث لرسول الله، وبدأ النبي صلى
الله عليه وسلم " يردد: لا إله إلا الله ، إن للموت لسكرات، ويتصبب عرقاً،
وكلما مسح العرق وجففه، ازدادا عرقاً. تقول السيدة عائشة: فأخذت يده أمسح
بها العرق.
قالوا لها : لما لم تمسحي العرق بيدك أنت؟
قالت: لأن يد النبي أكرم من يدي.
تقول: فتذكرت أنه كان يدعو للمرضى وللضعفاء بوضع يده على رؤوسهم ويقول :
" اللهم رب الناس أذهب البأس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك .. شفاء لا يغادر سقماً.
تقول: فوضعت يده على رأسه وظللت أدعو بها. فأنزل يده وقال: لا يا عائشة لا ينفع الآن، تقول: فعرفت أنه ميت.
وبدأ صوت الصحابة في المسجد يعلو: ماذا أصاب رسول الله؟
فسمع النبي أصوات الناس وقال: ما هذا؟
قالوا: يخافون عليك يا رسول الله، فقال : احملوني إليهم.
وأراد أن ينهض فما استطاع.
فأتوا بقربة ماء يصبونها على النبي " صلى الله عليه وسلم " لكي يفيق، صبوا عليه سبع قرب، حتى قال: حسبكم حسبكم.
اللــقاء الأخـــير
حمل الصحابة النبي " صلى الله عليه وسلم " إلى المنبر، وصعدوا به فسكت الناس وقال آخر وصاياه في آخر خطبة للمسلمين: أيها الناس.
لكأنكم تخافون عليّ.
فقالوا: نعم يا رسول الله.
قال: أيها الناس موعدكم معي ليس الدنيا .. موعدكم معي عند الحوض، والله لكأني أنظر إليه من مقامي هذا.
أيها الناس.. والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم الدنيا أن
تتنافسوها، كما تنافسها الذين من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم.
أيها الناس.. إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين لقاء الله فاختار لقاء الله.
ولم
يفهم أحد ماذا يقصد النبي بالعبد الذي خيره الله، إلا أبا بكر الصديق الذي
ارتفع نشيجه في المسجد.. ثم وقف وقال: فديتك بأبي، فديتك بأمي، فديتك
بولدي، فديتك بمالي، فديتك بكل ما أملك، فنظر الناس إلى أبي بكر، لأنهم لم
يتعودوا أن يقاطع أحد النبي، فتوقف النبي عن الاستمرار في الخطبة لكي
يدافع عن أبي بكر، وقال: أيها الناس.. دعوا أبا بكر فما منكم من أحد كان
له عليّ فضل، إلا كافأته به إلا أبا بكر لم أستطع مكافأته، فتركت مكافأته
إلى الله عز وجل.
كل الأبواب تغلق عن المسجد إلا باب أبي بكر لا يغلق أبداً.
ثم
قال النبي: أيها الناس.. من كنت قد جلدت له ظهراً. فهذا ظهري فليقتص مني،
ومن كنت قد أخذت منه مالاً، فهذا مالي فليقتص مني، ومن كنت قد شتمت له
عرضاً، هذا عرضي فليقتص مني.
فإني أحب أن ألقى الله نقياً، ولا يخشى الشحناء فإنها ليست من طبعي..
فقام رجل وقال: لك علي ثلاثة دراهم، فقال النبي: جزاك الله خيراً، أعطه يا عباس الدراهم الثلاثة.
ثم قال النبي: أيها الناس، الله الله في الصلاة، الله الله في الصلاة، وظل يرددها.
ثم قال: أيها الناس.. الله الله في صلة الأرحام، أيها الناس.. الله الله في النساء، أوصيكم بالنساء خيراً، أوصيكم بالأنصار خيراً.
ثم قال: أواكم الله، نصركم الله، حفظكم الله، أيدكم الله، ثبتكم الله، أواكم الله، رفعكم الله، حفظكم الله، نصركم الله.
وقبل أن ينزل من المنبر قال: أيها الناس أبلغوا مني السلام كل من تبعني من أمتي إلى يوم القيامة.
ونزل النبي صلى الله عليه وسلم وعاد إلى بيت السيدة عائشة.
ســر بكـاء فـاطمـة
تقول
السيدة عائشة: بعد هذه الخطبة دخلت عليه ابنته فاطمة، فقال لها: ادنُ مني
يا فاطمة، وأسر لها في أذنها كلمة فبكت، ثم ناداها لتقترب منه مرة أخرى،
وقال لها هامساً بكلمة أخرى، فضحكت، وبعد أن مات سألوها: ماذا قال لك
النبي؟
قالت: قال لي في المرة الأولى إني ميت الليلة. فبكيت...
فلما وجد بكائي: قال لي: أنت أول أهلي لحاقاً بي، فضحكت.
كان
أبو بكر يصلي الفجر بالناس فنهض النبي وفتح باب غرفته المطلة على الروضة
وهو الباب الذي كان يخرج منه إلى المسجد، ولم يكن يخرج من هذا الباب غيره.
رأي النبي أبا بكر يصلي بالجموع التي أصابها القلق الشديد على رسول الله، فكانت لا تغادر المسجد إلى بيوتها.
ابتسم النبي حين رأى الجموع تصلي خلف أبي بكر، وكانت آخر ابتسامة للنبي من أجل الصلاة.
يقولون:
فأحسسنا بالنبي وهو ينظر إلينا ويبتسم، فكدنا نخرج من الصلاة فرحاً برسول
الله صلى الله عليه وسلم، فأشار النبي إلينا أن نظل في أماكننا، فكنا
نسترق النظر إليه والله كأن الشمس طلعت علينا، ولم نر رسول الله أجمل ولا
أنور من تلك الليلة.
ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته، وجاءت الوفاة عند شروق شمس يوم الاثنين.
لقد ولد عند شروق الشمس، ويموت عند شروق الشمس.
مـوت بالاسـتئـذان
كيف مات النبي صلى الله عليه وسلم؟
كان يركن رأسه على صدر عائشة، لم يمت وهو يقرأ القرآن أو وهو يصلي أو أثناء إحدى حروبه.
تقول السيدة عائشة: والله .. مات رسول الله في سحري ونحري، "ما بين رئتي وصدري"، هذا هو الحب في بيت النبوة.
كان
يضع رأسه الطاهر على صدر عائشة، ثم بدأ يتمتم: بل الرفيق الأعلى... بل
الرفيق الأعلى، تقول السيدة عائشة: كان جبريل قد دخل على النبي قائلاً:
السلام عليك يا رسول الله.
فتسمع عائشة النبي وهو يقول: عليك السلام يا جبريل.. فتفهم أن جبريل في بيتها.
يقول له جبريل: يا رسول الله معي ملك الموت يستأذن أن يدخل عليك، ولن يستأذن على أحد من بعدك.
فيقول له النبي: ائذن له يا جبريل.
فيدخل
ملك الموت: السلام عليك يا رسول الله، أرسلني ربي أخيرك بين البقاء في
الدنيا وبين لقاء الله، فيرفع النبي إصبعه السبابة إلى السماء ويقول: بل
الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى. تقول السيدة عائشة: فعرفت أنه يخير،
وقلت إذاً لن يختارنا.
فقالت: خُيّرتَ فاخترتَ والذي بعثك بالحق فظل النبي يقول: بل الرفيق الأعلى ويبتسم وهو في صدر السيدة عائشة.
ويقف ملك الموت عند رأس النبي ويقول: أيتها الروح الطيبة. روح محمد بن عبد الله اخرجي إلى رضا من الله ورضوان ورب راض غير غضبان.
تقول
السيدة عائشة: فسقطت يد النبي صلى الله عليه وسلم وثقل رأسه في صدري،
فعرفت أنه قد مات، فلم أدرِ ما أفعل، فما كان مني غير أن فتحت الباب الذي
كان يخرج منه النبي، فنظر إليّ المسلمون بدهشة، فصرخت فيهم أقول: مات رسول
الله.. مات رسول الله.
فانفجر المسجد بالبكاء.. تقول عائشة: وأنا
لا أتمالك نفسي، أصرخ: مات رسول الله، مات رسول الله، فجلس علي بن أبي
طالب ولم يستطع القيام وظل عثمان بن عفان يدور حول نفسه والصحابة يأخذون
بيده يمنة ويسرة.
وتحاول فاطمة الصبر والتماسك كما أمرها النبي
فظلت تقول: يا أبتاه.. أجاب رباً دعاه.. يا أبتاه.. جنة الفردوس مأواه..
يا أبتاه.. إلى جبريل ننعاه.
أما عمر بن الخطاب فأمسك بالسيف وقال: من قال أنه قد مات قطعت رأسه، إنما ذهب للقاء ربه وسيعود.
حكـمة أبي بكر
أما
أثبت الناس فكان أبا بكر الصديق الذي دخل على النبي واحتضنه، وتأكد أنه قد
مات، وظل يقبله ويقول: واحبيباه، وانبياه، واخليلاه، ثم نظر إلى وجه النبي
الجميل وهو ميت وقال: ما أجملك حياً وما أجملك ميتاً يا رسول الله.. طبت
حياً وطبت ميتاً يا رسول لله.
ثم خرج من البيت وقال: اسكت يا عمر.
أيها الناس.. من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
"وما
محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين"
يقول
عمر فكأني أسمعها لأول مرة، فعرفت أنه قد مات، فخرجت من المسجد أبكي،
وأبحث عن مكان أبكي وأصرخ فيه وحدي فناداني أبو بكر وقال يا عمر رسالة
النبي.
ويجتمع المسلمون قبل غسل النبي ودفنه ويختارون أبا بكر
الصديق، ويبايع أبو بكر قبل دفن النبي صلى الله عليه وسلم.. يقول علي بن
أبي طالب: أمرني النبي أن أغسله في ثيابه، ودخل أهل بيت النبي ليغسلوه علي
والعباس والفضل بن العباس وأسامة بن زيد، وجاء رجل اسمه أوس من الأنصار
قال: يا علي أين نصيب الأنصار في رسول الله.. دعوني أغسل النبي معهم.
فكان العباس وابنه الفضل يقبلان جثمان النبي وأسامة بن زيد يسكب الماء، وقام علي بن أبي طالب يغسل النبي.
ودخلت المجموعات لتصلي على النبي، وكانت أول مجموعة تضم أبا بكر وعمر.
فوقف عمر يقول:
أشهد
أنك قد أديت الرسالة وبلغت الأمانة ونصحت الأمة، وجاهدت في سبيل دينك حتى
أتاك اليقين، فجزاك الله عنا خيراً، ثم دخلت النساء يصلين على النبي، ثم
دخل الأطفال، ثم جاء وقت الدفن فتساءل الصحابة: كيف نهيل التراب على رسول
الله؟
فتذكروا حديث النبي حين قال لهم: حياتي خير لكم ووفاتي خير
لكم، حياتي خير لكم أهديكم إلى الخير، ووفاتي خير لكم تعرض عليّ أعمالكم
يوم الخميس فما كان فيها من خير حمدت الله، وما فيها من شر استغفرت لكم
الله.
فقالوا: يا رسول الله أو تعرفنا بعد مماتك؟
قال: أعرفكم بأنسابكم وأسمائكم.
فقالوا: كيف تدعو لنا وقد أكلك الدود؟
قال: إن الله حرم الأرض على أجساد الأنبياء.
فبدؤوا يهيلون التراب عليه وقبل إغلاق المقبرة جاء المغيرة بن شعبة وألقى خاتمه فيها وصاح: انتظروا فقدت خاتمي.
فقالوا
له: انزل إلى المقبرة، فنزل واحتضن النبي صلى الله عليه وسلم وظل يبكي
ويقول: أحببت أن أكون آخر من يودعك يا رسول الله.. وأخذ خاتمه وخرج ودفن
النبي.
منقول لإفاذة و شكرا....
اللهم اسقنا من حوض نبيك واجمعنا معه في الجنة أمييييين يا رب.