كانت برفقة صديقتها يتجاذبان أطراف الحديث، وعندما أذن المؤذن لصلاة العصر؛ قطعت "أسماء" حديثها الهام، وعرجت على أقرب مسجد لأداء الصلاة على وقتها.
غير أنها قبل أن تشرع في الصلاة أخرجت غطاء الرأس من حقيبة يدها، وغطت شعرها، ودخلت في الصلاة، وبعدما انتهت خلعته وأعادته إلى حقيبتها!!
وأسماء ليست "المتبرجة" الوحيدة التي تحافظ على أداء الصلوات، والقيام بالطاعات على أفضل وجه، فهناك كثير من الفتيات المسلمات يتميزن بالاستقامة والعفة وحسن الخلق؛ رغم أنهن متبرجات!
فـ"سعاد" - طالبة جامعية مغربية- إحدى هؤلاء الفتيات، حيث تعتبر نفسها متدينة ما دامت تؤدي جميع الفرائض، بل إنها تتقرب إلى الله بالنوافل أيضا، تتحدث عن موقفها من الحجاب فتقول: "الحجاب ليس له علاقة بتديني، فطالما أنا ملتزمة بما أمرني الله به، ومبتعدة عن نواهيه، فهذا هو الأساس في حياة المسلمة، أما الحجاب فيأتي فيما بعد!"، وتربط سعاد - حسب فهمها- بين حجاب المرأة ولحية الرجل، فتقول: ".. الرجل نفسه يمكن أن يكون ملتزما بدون أن تكون له لحية، فهل نرفض التزامه؟..".
وتستدرك: "ارتداء الحجاب لا علاقة له بتدين الفتاة، فكم من فتاة محجبة بعيدة عن الأخلاق؛ بُعد السماء عن الأرض..!!".
لم أتعود عليه..
وترجع "ثريا"- معلمة أطفال أردنية- عدم تحجبها إلى كون أسرتها لم تشجعها على ذلك في صغرها. ورغم ذلك فإنها تثقفت دينيا شيئا فشيئا، والتزمت وتقربت من الله تعالى بالصلاة المفروضة والنافلة.
لكن بالنسبة للحجاب؛ فلم تتخذ بعد قرارها؛ لأنها لم تتربَ عليه منذ الصغر، كما تؤمن بأن تدينها والتزامي يشفعان لها، وأن الحجاب -على حد قولها- أمره سهل، فقط يحتاج لاستعداد نفسي.
أما "إنجي"- فتاة جامعية مصرية- فتقول: "ارتديت الحجاب مرة من قبل وأنا صغيرة، لكني لم أكن بالقوة الكافية لمجاهدة نفسي فخلعته، وهو ما أراه ذنبا يفوق ذنب عدم ارتدائي له في الأساس، ولهذا لن أقدم على هذه الخطوة؛ إلا بعد أن أتأكد من قراري وأنني مقتنعة به 100%".
وتضيف إنجي: "أرى نفسي متدينة، فأنا أحافظ على أداء الفرائض، وأسس الدين.. نعم لست متعمقة فيه؛ ولكنني لا أتوانى عن نصرته؛ مثلما حدث في موقف الإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد بذلت جهدي للدفاع عن الإسلام؛ لأنه ديني الذي أحبه".
أما "وسام" - فتاة سورية-؛ فكانت تعتزم ارتداء الحجاب عندما رأته يزين رأس أختها الكبرى، ولكنها ترددت فيما بعد بحجة أن أمها لا ترتدي سوى إيشارب صغير، وبقية أخواتها لا يرتدينه على الإطلاق!!.
وتنفي وسام أن رغبتها في الزواج وراء عدم ارتدائها للحجاب؛ لأنها تراه قرارها الخاص، وحجتها أنها رفضت الإنصات لخطيبها عندما طلب منها ارتداء الحجاب، وأنها قالت له: "هذا أمر بينها وبين ربها".
"هدى" - فتاة جزائرية تعمل في إحدى شركات المعلومات- متبرجة وتؤدي فرائضها الدينية بإخلاص، ولا تخفي رضاها عن نفسها رغم مهاجمة البعض لتبرجها، تقول: "أنا راضية عن نفسي، لأنني أحاول ما استطعت ألا أرتكب معصية، كما أتجنب الوقوع في الأخطاء والزلات، وأن حفظ جوارحي من الوقوع في الحرام، أما موضوع الحجاب، فهو أمر شخصي يتعلق بالمرأة، ومدى قابليتها لارتدائه وليس شرطاً في الالتزام"!!.
لكن "سمية"- محامية متدربة بالرباط، تعترف بأنها غير راضية في قرارة نفسها عن التناقض بين تدينها واستقامة أفعالها؛ وبين شكل لباسها الخارجي. تقول المحامية الشابة: "أشعر بإحباط نفسي كبير حين أرمق امرأة محجبة منسجمة داخليا...".
وتردف سمية موضحة شعورها بفداحة التناقض النفسي الذي تعيشه وتتخبط فيه، موضحة رغبتها في ارتدائه قريبا، تقول: "أحس أحيانا بأن كل ما أقوم به من أعمال خير وبر ومن صدقات وإصلاح، غير مقبول مني أو مردود عليّ باعتباري غير مطيعة لله تعالى في هذا الجانب بالذات.. أقصد الحجاب".
في انتظار القرار
وتتمنى "روان" - لبنانية وتعمل في مجال السكرتارية أن يأتي اليوم الذي تتخذ فيه قراراً جديًّا لارتدائه، ولكنها لا تعرف السبب الذي يمنعها من اتخاذه حتى الآن. ولكنها ترى في الوقت نفسه أنها أفضل من تلك التي ترتديه وتخلعه.
إحدى المتبرجات اللائي يحرصن على أداء الصلاة في وقتها؛ تنظر إلى الحجاب نظرة سلبية، وتعتبره مجرد سلوك معيق لتقدم المرأة ومفوت لمصالحها. تقول "هبة" - ناشطة جمعوية في إحدى الجمعيات النسائية بالمغرب: "رغم ما يوصف به الحجاب كرمز لعفة الأنثى، فإن الصلاح هو صلاح القلب، وليس غطاء تضعه المرأة على رأسها؛ في حين أن أخلاقها قد تكون في الحضيض.
فالحجاب حجاب العقل والقلب، وهو يضيع على المرأة العربية عدة فرص ومصالح تفوت عليها تحسين ظروف عيشها وتطوير كفاءاتها وإثبات شخصيتها. لذا، لم أرتدِ الحجاب؛ لأنه قد يعيق نشاطاتي الاجتماعية والمجتمعية، ويعيق تطور أفكاري وانطلاقة إبداعاتي وطموحاتي الكثيرة".
مدخل للشيطان
يظهر الحجاب بكثافة في مواقع العمل |
ترى د. ناهد الملا- أستاذ علوم الشريعة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة- أن هذه الحجج التي تسوقها المتدينة المتبرجة من مداخل للشيطان؛ إذ يجعلها تعقد مقارنة بينها وبين المحجبة غير الملتزمة أخلاقيا.
وتضيف د. ناهد: "بالفعل هناك ظروف مجتمعية تقف أمام الحجاب، ولكن لو علمت كل فتاة أن الحجاب فريضة وليس سنة تكميلية، وأن الحياء من الله يوجب طاعته واجتناب معصيته، لبدت أمامها هذه العوائق والأعذار واهية".
هل الرضا النفسي الذي تشعر به بعض المتدينات من المتبرجات حقيقي أم مزيف؟، هذا ما يجيب عليه د. سعيد الحمراوي- إخصائي في علم النفس الاجتماعي، يقول: "هذا ادعاء نفسي ظاهري، وكل إنسان سويّ يقع في تناقض بين السلوك والتطبيق؛ ولا يشعر بالرضا عن نفسه.
وكذلك الأمر بالنسبة للفتاة التي تعلم أن الله فرض الحجاب من فوق سماواته، ومع ذلك لا ترتدي الحجاب، ثم تزعم بأنها راضية عن نفسها؛ لأنها تؤدي بقية الفرائض الدينية. فهذا خلط في المشاعر إلا إذا كانت تجهل فرضية الحجاب، هنا يصبح الأمر جهل مركب...".
ويؤكد د. الحمراوي أن الفتاة تشعر بالتوتر النفسي نتيجة هذا التناقض، وتقع في النفاق السلوكي الناجم عن الهوة بين ما تؤمن وواقعها كمتبرجة، وأنها تأخرت في اتخاذ القرار الصحيح، بما قد يؤدي إلى تراجعها في الالتزام، حتى ينسجم مظهرها مع مخبرها".
السمت الإسلامي
ويحذر علي الزايدي -باحث مغربي في علم الاجتماع- من انتكاسة للمجتمع؛ إذا ما بادرت كل فتاة ملتزمة بإبعاد الحجاب من صيرورة حياتها؛ لأن من تعتقد أن تدينها كاف بدون الحجاب هي مدعية للتدين وتدينها ناقص.
ويبدي الزايدي خشيته من حدوث شرخ اجتماعي نتيجة الأخذ بجزء من الدين، وترك جزء آخر. واستشهد بعدد من الأمراض الاجتماعية الناتجة عن التبرج، منها: شيوع الزنا، تفكك أواصر المجتمع، اندثار الخصال الحميدة كالحياء والعِفة، انحلال الأخلاق، كثرة التهتك والميوعة، استفحال أزمة الزواج، وانتشار العنوسة بين أوساط الشباب.
وترسم د. سهير عبد العزيز-أستاذة علم الاجتماع بجامعة الأزهر- صورة الدين الحق في ذهن فتياتنا، وتوضح أن الإسلام دين سلوك وعبادات ومظهر؛ إذا اجتمعت هذه الجوانب الثلاثة لدى الإنسان؛ فقد وفى ما عليه.
وترى د. سهير أن الدافع وراء عدم ارتداء الملتزمات للحجاب النرجسية وحب الظهور، والرغبة في أن تظل محط إعجاب الآخرين على الدوام، فهي تعتني بمظهرها الخارجي اقتناعا منها أن تقييمها في المجتمع؛ يأتي على أساس مظهرها.
"خالف تعرف"
د. أحمد عبد الله |
ويتفق معها د. أحمد عبد الله -المستشار الاجتماعي لشبكة إسلام أون لاين- موضحا أن الدافع وراء خلع الملتزمات للحجاب، هو الرغبة في التميز، اتباعا لقاعدة "خالف تعرف". وهو نوع من ممارسة الحرية في المساحة الضيقة المتاحة أمام الفتاة العربية. فهي لا تختار لنفسها، وارتداء الحجاب في نظرها هو القرار الوحيد الذي تأخذه بمفردها. ولذا فإنها تحاول من خلاله إثبات أن لها رأيا، ووجهة نظر وشخصية مستقلة، وعلى هذا تجد كثيرات يستهلكن وقتا طويلا في اتخاذ قرار ارتداء الحجاب؛ على اعتبار أنه قرار حياة أو موت.
ويعتبر عبد الله الإدريسي -باحث في الدراسات الإسلامية- أخذ جزء من الدين وترك جزء آخر؛ فهما خاطئا له، فالشرائع المفروضة واحدة.
ويوضح الإدريسي أن أخطر الأمراض النفسية التي تصيب الملتزمين هي التناقص بين المظهر والمخبر أو الحقيقة الداخلية للمتدين، وهو ما يظهر مع المتدينات المتبرجات بشكل معاكس، حيث تبدي الفتاة الجانب السلبي، وتخفي الجانب الإيجابي وهو الالتزام الحقيقي، بما قد يؤدي إلى فوضى مجتمعية.
الحجاب رمز التحرر
ويرد د. أحمد الريسوني - أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة محمد الخامس بالرباط على من تظن الحجاب عائق لتطور المرأة قائلا: "إذا تجاوزنا الخطابات المبهمة والشعارات التحديثية ذات التأثير الإشهاري الجذاب، فإننا لا نجد أي مصلحة حقيقية راجحة يعوقها الحجاب ويفوّتها.
ويضيف الريسوني: "أحسب أن الواقع المعيش والمشاهد في العالم كله، في العالم الإسلامي، وفي العالم الغربي، أصبح اليوم يشكل أبلغ رد على كل ما يقال عن السلبيات المدّعاة للحجاب. فلم يعد الحجاب قريناً للجهل والأمية والخنوع والتخلف، بل أصبح في حد ذاته رمزاً للتحرر والتمسك بالحقوق والمبادئ، ورمزاً للثبات والمعاناة في سبيلها، وله معانٍ رمزية لم تكن له فيما سلف يوم كان شيئاً عاديًّا يقبله الجميع ويسلم به الجميع.
فالمرأة المتحجبة هي امرأة متحررة ومناضلة بمجرد تمسكها بحجابها في وجه الضغوط والمضايقات كافة، وهذا فضلاً عن كون ذوات الحجاب يوجدن اليوم بجدارة وكفاءة في كل موقع من مواقع العلم والعمل الراقية المتقدمة، ولا يختفين إلا من المواقع التي يُمنعن منها، أو لا تليق بكرامتهن وخلقهن".
التبرج هو العائق
د. أحمد الريسوني |
ويضيف: "السبب الحقيقي وراء تكبيل حرية المرأة، وإعاقة تطورها؛ ليس الحجاب، وإنما الانغماس في التبرج والتزين والهواجس الاستعراضية. فاللباس الساتر المتعفف، المعتدل المتواضع، أصبح اليوم ضرورة لوقف انحدار المرأة، ومساعدتها على إعلاء قيمتها وهمتها، وعلى استعادة كرامتها وتوازنها، وتلك هي المصلحة حقًّا".