سحر وفلكلور وأغاني حب
منذ زيارتي الأولى للمملكة المغربية عام 1972 إبان تصوير فيلم (الرسالة) في إحدى قرى عمالة (محافظة) مراكش: المترعة بالأسطورة والسحر, والتاريخ والعراقة والأصالة والفروسية, وكل الصفات والمناقب والقيم, التي تميزها عن غيرها من مدن العالم, أقول منذ ذلك الزمن, لاحظت احتفاء الإخوة المغاربة الشديد بالمواسم. وقد تزامن حضورنا لمدينة مراكش آنذاك احتفاء البلاد والعباد بمولد المصطفى صلى الله عليه وسلم. وكنت في تلك الزيارة بمعية نفر طيب من الزملاء الأصدقاء الإعلاميين (عبدالعزيز جعفر وكيل وزارة الإعلام لشئون الإذاعة, عبدالرحمن الحوطي وكيل وزارةالإعلام للشئون الهندسية بالكويت, والشيخ عيسى بن محمد الخليفة وكيل وزارة الإعلام بالبحرين والدكتور عبدالعزيز محمد المنصور ومحمد ناصر السنعوسي وكيل وزارة الإعلام لتلفزيون الكويت), الذي تفضل بدعوتنا لمشاهدة تصوير الفيلم بصفته رئيس مجلس إدارةالشركة المنتجة للفيلم.
ففي الصباح, فوجئنا بمدينة مراكش تعيش عيداً سعيداً, يرفل فيه الأطفال بجلابيبهم الجديدة البيضاء, وتتهدج المساجد بالأدعية والأذكار, وتغرد الإذاعات الوطنية والجهوية بالأناشيد والموشحات, وفنون (الملحون) والأغاني الشعبية المكرسة للاحتفاء بالمناسبات الشريفة.
لقد كان عيداً بحق يلبس فيه الجميع الملابس البهية الجديدة, ويطعمون الحلوى الخاصة بالاحتفالية, فضلاً عن (الكسكسي) الطافح بالخضار ولحم الدجاج, والشاي الأخضر المعطر بالنعناع, واللبن والتمر وشراب اللوز.. وغير ذلك من عادات وطقوس احتفالية روحية ودنيوية يتزاوج فيهما الدين بالدنيا بأبهى تجلياته ويخلف في الوجدان آثاراً حميدة شجية لا تنسى أبداً.
لا بد من إميلشيل ولو طال السفر!
من يومها عرفت أن المغرب هي أم المواسم والموالد وأولياء الله الصالحين! حسبك أن تعرف أن عدد المواسم يعد بالمئات!
وحين كنت أعمل مستشاراً إعلاميا عام 1978 بسفارتنا في العاصمةالمغربية (الرباط), سمعت عن (موسم إميلشيل للخطوبة) للمرة الأولى. فقد شاهدت في التلفزة المغربية: فيلماً وثائقياً يتمحور حول الموسم, أذكر أنه أثار دهشتي وإعجابي وفضولي ورغبتي في التعرف عليه عن كثب!
ومن حسن حظي - آنذاك - أن رئيس البعثة الدبلوماسية الكويتية كان هوالسفير الفنان الأستاذ (حمد عيسى الرجيب) - رحمه الله وغفر له - وكان سفيراًاجتماعياً شعبياً تجده حاضراً في جل الأنشطة الثقافية والفنية وغيرهما. كما كانمنزله في حي السويسي الأرستقراطي الجميل بالرباط صالوناً أدبياً مشرع الأبواب خمس ليال في الأسبوع, طوال السنة, كما كان هذا دأبه حينما كان سفيرا لدولة الكويت في قاهرة المعز. وفي صالون (أبي خالد): تعرفت على المهرجان المذكور, من خلال الأدباء والفنانين المغاربة الذين يرتادون الصالون الأدبي, وتربطهم بسعادة السفير علاقة ود حميمة.
وحين انفض سامر الصالون وجدته يقول لي: لا بد من (إميلشيل) ولو طال السفر! سنكون هناك في موسمها المقبل في سبتمبر 1978. إلا أن سعادة السفير - لسوءالحظ - غادر المملكة المغربية قبل موعد الموسم, ليتم تعيينه - فيما بعد - وزيراًللشئون الاجتماعية والعمل إذا لم تخني الذاكرة الهرمة! لكنه حين لاحظ شدة اهتمامي بحضور الموسم المذكور, وعدني بأنه سيكون في المغرب يوم تاريخ عقده, لأحضره بمعيته لكن الظروف لم تمكنه من ذلك. ومن سنتها وأنا أبحث عن صديق عربي خليجي يشاركني الاهتمام بهذا النوع من السياحة! إن قرية إميلشيل تابعة لإقليم (الرشيدية) الذي يبعد عن العاصمة المغربية أزيد من ألف كيلومتر, والسائح العربي الخليجي: لا يحب الحركة والمغامرة والاكتشاف والترحال والسياحة في أرض الله وعباده! فتراه علىالدوام (رابضا) في النزل, أو المنتجع السياحي الذي يقطنه لا يبرحه البتة! اللهم إلا للسباحة في (البيسين) الذي يسمونه حمام السباحة, أو يعوم في البحر, إن كان ثمة بحر. ودائما وأبداً يتربع في المقاهي والمرابع الليلية فقط لا غير! وكاتب السطور - فيهذا السياق - لا يبرئ نفسه البتة!!
ولو فعل ذلك لما استحق شهادة الجنسية الكويتية!!
الشاهد أني لم أحضر موسم الخطوبة الشهير إلا في صيف 2001 شهر سبتمبر. ولأني جنوبي الهوى فقد اخترت الذهاب إلى الموسم جنوبا من الدار البيضاء (كازابلانكا) أو (كازا) حاف كما يسميها الإخوة المغاربة, أو إن شئت (كازاماذا) كمايحلو لي نعتها! ولا تسألني لماذا?! وهكذا تحركنا من (كازا) الى مراكش عاصمة الجنوب. ومنها إلى مدينة ورزازات.. حتى الرشيدية. إن منطقة إميلشيل تقع في أحضان جبال الأطلس والطريق ابتداء من مدينة ورزازات جبلي شديد الوعورة والارتفاع والأكواع, والمنحنيات والمنحدرات الشديدة الخطورة, التي تحتاج إلى سائق ماهر يملك عين الصقر, وجسارة الأسد, وصبر الجمل. فضلاً عن أن الطريق لا تنفع معه سوى سيارة الجيب القادرةعلى طي الجبال (كجلمود صخر حطه السيل من عل).
والطريق مترع بالجمال والسحر والتنوع, فتارة تكون في صحراء يباب جرداء ليس فيها سوى الحصى, وبعد حين تجد نفسك وسط سهول خضراء مزروعة بالليمون والبرتقال والزيتون والتمور, وتارة ثالثة تجد نفسك في أعالي الجبال على ارتفاع يزيد على الألفي متر تحيط بك أشجار الصنوبر وشجيرات العرعر بينما جموع القردة تتقافز هناوهناك لاهية عابثة غير عابئة بأحد.
المرأة الأمازيغية
والمغاربة شعب حضاري محب للبيئة والطبيعة والمخلوقات التي تشاركه الحياة فيها. ومن هنا تجد أن جل طيور الشمال الأوربي, تلوذ بالمغرب إبان الشتاء, تسكنه بطمأنينة وأمان, كما أن الصيد هناك مقنن, وليس مشاعا كما هو حاله في المشرق العربي! الأمر الذي أدى إلى القضاء على كل الطيور والحيوانات التي كانت تسرح وتمرح في صحارى مصر وليبيا والسودان وشبه الجزيرة العربية, التي لم يبق فيها الآن سوى الخنافس والجعلان فقط لا غير!
صحيح أن هناك ردة صحية لإيجاد محميات طبيعية عامرة بالطيوروالحيوانات, التي كانت حاضرة في المشرق العربي في النصف الأول من القرن العشرين, لكن البلية تكمن في ذلك النفر من القنّاصة الذين يحبون الرمي والقتل والقنص حبا فيقتل مخلوقات الله الحيوانية بمزاجية لا يغبطون عليها!
وليس جمال الطبيعة الفتّان - وحده - هو الذي يلفت نظر المسافر عبرجبال الأطلس الأعلى بل الأجمل منه الإنسان الأمازيغي او (البربري), كما ينعته الغربيون الأوربيون. والبربري تسمية شائعة خاطئة, لأن اسمه الحقيقي هو: الأمازيغيوالشعب هو: الأمازيغ, والأمازيغي - بالمناسبة - تعني الإنسان الحر.
وحين أتحدث عن إعجابي ودهشتي بالإنسان الأمازيغي, فإني أعني بالتحديدالمرأة الأمازيغية, فقد وجدتها ترعى شئون البيت, وتربي العيال, وتفلح وتزرع وتحصد, وتحمل المحصول على كاهلها, وترعى المواشي وتحلب البقر والنياق, وتبيع الغلة على الطرقات وبمعيتها عيالها الصغار! ويبدو لي أن الرجل الأمازيغي مكرّس وقته للحربوالحب.. حب خلفة الذراري من البنين والبنات!
ولعله من فضول القول التنويه بأني طوال الطريق الذي زاد على الألف كيلومتر, لم أجد سياحاً عرباً يوحدون الله سبحانه, فكل السيّاح من الأجانب, ولن أذكر الزوار المغاربة, لكون حضورهم من تحصيل الحاصل, ولا يستوجب الإشارة والتنويه.
ومن هنا كان حضوري مثار دهشة و(فرجة) النظارة من الإخوة المغاربة, وجموع السيّاح على حد سواء! سيما أني كنت ألبس الزي العربي الخليجي, الذي باتمعروفا للعامة والخاصة على حد سواء.
موسم الخطوبة
يعد موسم (إميلشيل) للخطوبة الذي تقيمه عمالة (محافظة) (الرشيدية) من 19 إلى 21 سبتمبر قبلة الزّوار والسيّاح الأجانب (غير العرب) والمغاربة, فضلا عن الباحثين في الفلكلور والأنثروبولوجيا وغيرهما, نظراً لما تنطوي عليه هذه التظاهرةالشعبية, التي لا مثيل لها في العالم, من طابع أسطوري معجون بالخيال الشعبي لسكان قبائل (آيت حديدو) القابعة في جبال الأطلس على علو 2000 متر.
يجتمعون في هذه الفترة من السنة المتزامنة مع موسم الحصاد لتخليد أسطورة بحيرتي ( إيسلي ) و(تيسليت) وتعني بالأمازيغية: الخطيب والخطيبة. والأسطورة تتحدث عن حكاية ولد وبنت أحب كل منهماالآخر حباً جماً, لكنهما - لسوء حظهما - ينتميان إلى قبيلتين متعاديتين, لذا كان من البدهي أن جوبه حبهما بالرفض وعدم السماح لهما بتتويجه بالزواج, الأمر الذي أدىبهما إلى البكاء المترع بالدموع الغزيرة المدرارة. فكوّنت دموعهما كلاً من بحيرتي ( إيسلي ) و(تيسليت). وأسطورة العاشقين باتت فيالمخيال الشعبي ترمز إلى التحرر واستقلالية اتخاذ القرار بين سكان القبيلة. وهذه الحرية ليست مطلقة بل إنها مرهونة بموافقة ذوي الخطيبين.
والموسم في المملكة المغربية يضاهي المولد في مصر المحروسة. وأظن أن الأخيرة ورثت الموالد من المغرب. سيما أن جل الأولياء الموجودين في مصر هم من المغاربة! ومهما يكن الأمر فإن المملكة المغربية تعد بحق أم المواسم! فكل عمالة وحاضرة ومدينة وقرية لها موسمها الخاص! بحيث يمكن لنا القول إن هناك المئات من المواسم التي تقام على مدار السنة في طول المملكة المغربية وعرضها!
والموسم في المغرب له معان شتى: فهو يحوي السوق والمولد - أي الاحتفاء بميلاد أحد أولياء الله الصالحين - فضلاً عن كونه المعرض والمهرجان والعرس. وتتضافرهذه الفعاليات لتخلق فضاءً فريداً تمتزج فيه الأسطورة بالخيال بالتراث الشعبي والعادات الاجتماعية القبلية المغرقة في القدم.
يتبــــــــــع................